لا يتورّع الوزير جبران باسيل عن فتح أبوابٍ كارثيةٍ مغلقة على مسيحيي لبنان، من أجل تمرير معمل الكهرباء سلعاتا. النفخ في نار الطائفية والتحاصص على حساب القدرة والمنطق، قد يؤديان إلى دمار الهيكل فوق رؤوس الجميع، بسبب النبش في دفاتر الديموغرافيا التي أرسى توازناتها “الميثاق الوطني” و”اتفاق الطائف”.
برغم الأزمة الاقتصادية والنقص الحادّ في الدولارات، يصرّ باسيل على “حقّ” المسيحيين في الحصول على معملٍ كهربائيّ خاص بهم ضمن مناطقهم عملاً بمبدأ “الأمن المسيحي”. في نظر باسيل، فكما للسنة معمل في دير عمار وللشيعة معمل في الزهراني، لا بدّ أن يكون للمسيحيين معمل أيضاً في سلعاتا.
إقرأ أيضاً: باسيل “يتدلل” على سبب وجوده
قسمة “ضيزى” شمل فيها باسيل المسيحيين، بين موارنة وروم وأرمن وسريان وأقليات أخرى، تحت لواء “حصّة مسيحية واحدة” بزعامة الموارنة. حصة تكرّس نهج “المثالثة” من حيث لا تدري، وتتقاطع في مضامينها ومراميها، عن قصد أو غير قصد والله أعلم، مع خطبة المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان التي نعى فيها صباحية عيد الفطر، الصيغة اللبنانية.
لا يهتمّ باسيل بردود أفعال الأقليات الأخرى مثل الدروز والعلويين، وعمّا يجول في خواطرهم نتيجة هذه الأفكار والطروحات، لأنّ جلّ ما يعنيه على ما يبدو، هو الانتصار على شركائه في الوطن مهما بلغت الأثمان السياسية والمالية على السواء. رُبّ سائل يسأل على سبيل المثال: ألا يحقّ لـ”بني معروف” أن يكون لهم معملَ كهرباءٍ في الشوف؟ ولما لا يكون للعلويين معمل في جبل محسن أيضاً؟
تنفخ آلة باسيل الإعلامية “نوتة” تخويف اللبنانيين من عدم إنتاج التيار في حال عدم تمرير مشروع سلعاتا (راجع كلام وزير الطاقة والمياه “المستقلّ” ريمون غجر). وكذلك تخويف المسيحيين من استئثار المسلمين بقطاع الكهرباء وحرمانهم من التيار في حال نشوب أزمة أو حرب، وقد لاقى هذا الكلام رواجه بين بعض الناس للأسف.
تقنياً، تخبرنا تجربة الحرب الأهلية ما هو عكس ذلك. شبكة الكهرباء في لبنان تعمل بشكل مركزيّ يُدار من غرفة عمليات واحدة في منطقة النهر. لم يُحرم منذّاك، أحد من اللبنانيين من التيار بسبب انتمائه الطائفي برغم الويلات والحروب، لا أحد يذكر أنّ ذلك قد حصل في أيام الحرب.
بل على العكس، فإنّ الوزير باسيل خلال وجوده في وزارة الطاقة والمياه هو الذي أخضع العاصمة بيروت للتقنين انطلاقاً من هذه الاعتبارات، وبحجة المساواة مع المناطق.
تردّ آلة باسيل الإعلامية وبعوضها الالكتروني، من خلال منصات التواصل الاجتماعي، على رفض السير بمعمل سلعاتا بإذكاء الحديث عن الفدرَلَة من باب الترهيب ومن أجل القول: “إذا لم توافقوا على طروحاتنا في الكهرباء فسنطالب بالفيدرالية والتقسيم”.
لكن يبدو أنّ من يتبنى هذا الطرح، قصير نظر بالفطرة ويعشق التهويل، لظنّه أنّ الطرح سيسلك طريقه بسلاسة لمجرّد تبنّيه من دون أيّ عوائق خارجية تخصّ نفوذ دول كثيرة داخل لبنان، أو عوائق داخلية انطلاقاً من مبدأ المناصفة السائد.
لا يعلم صاحب هذا الطرح أنّ الشعب اللبناني سيحترف فور طرح الفَدرَلَة، علم “الحساب التفاضلي”، خصوصاً حينما يطال الأمر عصبياته وصلاحيات طوائفه. طرح كهذا سيعيد النبش في تراجع أعداد المسيحيين (ولو أنّ المستقبل يَعِد بالتوازن بسبب هجرة المسلمين) لمحاسبتهم “فيدرالياً” نسبةً لأعدادهم الديموغرافية الحالية. كما أنّ التداخل السكاني الحاصل والاختلاط بين الطوائف في أغلب المناطق، سيقف عائقاً أمام أيّ عملية تقسيم، ولن يُكتب لأيّ مقاطعة مفترضة أن تكون صافية طائفياً من لون واحد في حال كان التقسيم جغرافياً، بل سيكون في كلّ مقاطعة أو كانتون، أقليات في ظل أغلبية مهيمنة (اللهم إن كانت خطة الفدرلة تتضمّن عمليات “ترانسفير”… فذلك بحث آخر).
ربما سيعاد الحديث عن خصوبة هذه الطائفة وتلك داخل المقاطعة ذاتها وتأثيرات ذلك في التوازن داخلها، وهذا يعني أن الطرح سيغوص في “حفرة بلا قعر” من الأزمات الإضافية المشابهة أشدّ مرارة من وضعنا الحالي.
ربط أيّ مشروع إنمائي بمنطلقات طائفية تحت طائلة التهديد بالتقسيم أو الفَدرَلَة، سيكون بمثابة نبش مداميك “اتفاق الطائف” و”السلم الأهلي” والتهديد بتهديمها لمصلحة “نهج التحاصص”، الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه
هذا على المستوى السياسي والجغرافي. أما على المستوى المالي، فإن فرض معمل سلعاتا من خلال اعتبارات طائفية كتلك، سيفتح نقاشاً واسعاً لا مفرّ منه حول هوية دافعي الضرائب ومبدأ شيوع الموازنة العامة الذي يقضي بـ”عدم تخصيص إيرادات معيّنة لتغطية نفقة معيّنة”. هذا المبدأ سيثير لعاب المسلمين (سنة وشيعة) لنسف “شيوع الضرائب” ربطاً بأعدادهم. سيجد المسلمون أنفسهم مضطرين لرفض بناء معمل سلعاتا، طالما أنّ استملاكاته الباهظة (200 مليون دولار في حمأة الأزمة الاقتصادية) ستُدفع بواسطة جزء من الضرائب التي يؤدّونها من دون أن يستفيدوا منه، ولا يُستبعد أن يكون الأمر مقدّمة صريحة لانسحاب هذا النهج في تفكير المسلمين وغيرهم، على كثير من المشاريع التي ستُخطّط لها الدولة وتنفّذها مستقبلاً.
ربط أيّ مشروع إنمائي بمنطلقات طائفية تحت طائلة التهديد بالتقسيم أو الفَدرَلَة، سيكون بمثابة نبش مداميك “اتفاق الطائف” و”السلم الأهلي” والتهديد بتهديمها لمصلحة “نهج التحاصص”، الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه، فانتفض الناس ضده في 17 تشرين الأول، فهل يُعقل أن يأتي الحلّ مما لفظته الناس؟
قطعا لا. لعلّ الحلّ لأزمة المواطنة (وربما الكهرباء) في هذه الظروف، يبدأ من تفعيل اللامركزية الإدارية، والالتزام الفعلي، من خلال حض اللبنانيين على التلاقي والاندماج والبحث عن المشتركات الايجابية وتوسيعها، لا الانقسام. يبدأ كذلك من الشهامة في تخصيص عدد من النواب داخل المجلس، ولو 10% من أصل 128، ينتخب منهم المسيحيون نواب المسلمين، وينتخب المسلمون في المقابل نواب المسيحيين. ربما يكون هذا “التشارك الموضعي” بداية متواضعة تؤسس لـ”وسطية” فعلية معقلنة، قادرة على انتشالنا من حفرة هذا “البازار الطائفي”، أو ربما البراز… ما عدت أعلم.