الروائية الإيطالية فرانشيسكا ميلاندري، توجّهت بهذا النص إلى الأوروبيين، من حجرها المنزلي في روما، قبل نحو 3 أسابيع، لتخبرهم عمّا ينتظرهم، بسبب تفشي فيروس “كورونا”، ونُشر النصّ في صحيفة “ذي غارديان” البريطانية، يوم الجمعة 27 آذار الجاري.
أكتب إليكم من إيطاليا. من مستقبل ينتظركم بعد أيام قليلة، حيث تصرخ أرقام الجائحة وبياناتها لتقول: “الرقصة نفسها ستجمعنا”.
خطوات قليلة في مسار الزمن تفصل بيننا. تماماً مثل مدينة ووهان الصينية، التي كنا نراقبها منذ بضعة أسابيع بصمت. نحن اليوم نشاهدكم كيف تتصرّفون. لقد فعلنا ذلك في السابق ولم نتورّع مثلكم عن سَوق الحجج والأعذار نفسها حتى وقت قصير. قلنا “إنّه مجرّد إنفلونزا… لمَ هذه الجلبة؟”.
فيما نشاهدكم من هنا في إيطاليا، نعرف أنّ كثيراً منكم سمع كلاماً من قبيل: “إلزموا بيوتكم”، وأمثلة ومقتبسات من أقول الروائي جورج أورويل والفيلسوف توماس بهوبز… لكن قريباً لن يكون هناك وقت لهذا الكلام كله.
إقرأ أيضاً: شهادات عالقين في أوروبا وأفريقيا ودول عربية: مسقط هي الأفضل
في أيّام الحجر الأولى ستأكلون كثيراً. ربما لأنّ الأكل سيكون أقصى ما يمكن فعله بحرية كاملة. لاحقاً ستلجأون إلى مواقع التواصل الاجتماعي لتعلّم أسرار استثمار الوقت بما هو مثمر ومفيد. وستنضمّون إليها وسيصيبكم الملل سريعاً ثم ستتجاهلونها بعد أيام.
ستنهلون من كتب “نهاية العالم” المكدّسة على رفوف مكتباتكم، ولكن ستشعرون لاحقاً أنّكم لا ترغبون في قراءة شيء من هذا كلّه… لتعودوا إلى المطبخ صاغرين.
في أيّام الحجر ستدركون كم أنّ الخلافات والعداوات مع الأصدقاء والأحبة أمرٌ تافهٌ
سيلازمكم الأرق ولن يطيب لكم النوم، وستسألون أنفسكم: ماذا حلّ بالديمقراطية؟
وسائط الإنترنت ستملأ فراغاتكم بحياة اجتماعية لن تتوقف، من واتساب إلى فايسبوك، ثم من فايسبوك فالواتساب فسكايب ثم ماسنجر… وهكذا دواليك.
ستشتاقون إلى أولادكم البالغين والبعيدين عن عيونكم بطريقة لم تعهدوها من قبل. من يدري؟ فربما لن تروهم مجدداً إذا باغتكم الفيروس التاجي اللعين، بلكمة في الصدر وكانت “الضربة قاضية”!
في أيّام الحجر ستدركون كم أنّ الخلافات والعداوات مع الأصدقاء والأحبة أمرٌ تافهٌ. قد تتواصلون مع من سبق وأقسمتم ألّا تكلمونهم أبداً، لتسألونهم عن أحوالهم وكيف يقضون أوقاتهم.
نساءٌ كثيرات قد تتعرّضن للضرب المبرح في بيوتهنّ. ستفكرون بمن لا يملك مأوى حتى يلجأ إليه وستشعرون بالخوف حينما تتركونها بهدف التسوّق، خصوصاً إن كنتنّ نساء. الشوارع كئيبة ومهجورة تسألكنّ كيف انهارت المجتمعات بهذه السرعة؟ ستهجركنّ هذه الأفكار حينما تعُدنَ إلى المنزل… وإلى الطعام مجدداً.
من كنتم تتجاهلونهم سيكونون أكثر الناس بعثاً للطمأنينة في القلوب
الوزن الزائد قدرٌ مكتوبٌ لا محيص منه. ستبحثون عن تدريبات اللياقة البدنية على الإنترنت، ستضحكون، ثم ستضحكون كثيراً حينما تستعرضون قدرات كوميدية مستجدّة تكتشفونها في أنفسكم. حتّى الجادّين بيننا سوف يتأمّلون في عبثية هذه الحياة، ويتفكّرون ويسرحون في ملكوت الكون وكلّ شيء.
لعلكم ستقطعون المواعيد لأصدقائكم وأحبّتكم لترونهم بضع دقائق في الطوابير على أبواب السوبرماركت، فتجافيكم المصافحة والقُبل، وتفصل بينكم العربات لضمان “التباعد الاجتماعي”. ستحصون وتعدّون وتراقبون كلّ الأشياء، حتّى السخيفة منها والتافهة… ولو أنّكم لستم بحاجة إليها.
في الحجر ستتكشّف لكم بوضوح طِباع المحيطين بكم وأمزجتهم، فتسقط أقنعة وتتثبّت قناعات وترتسم مفاجآت. المثقفون الذين لم تفارقهم الأخبار والمعلومات القيّمة سيُصابون بعارض السخافة، وقد يبتلي بعضهم بمنطق جاحد للحسّ الإنساني ومعاناة البشر، فيُحتقرون. من كنتم تتجاهلونهم سيكونون أكثر الناس بعثاً للطمأنينة في القلوب. سيتحوّلون إلى أهل ثقة مرِنين، قادرين على قراءة المستقبل والتنبؤ به.
الأشدّ إزعاجاً هم أولئك الذين سيدعونكم إلى رؤية هذه الفوضى على أنّها فرصة لا تُعوّض لإنقاذ الكوكب: “لطيف جداَ”، “الكوكب يتنفس على نحوٍ أفضل بسبب تناقص الانبعاثات”… لكن هؤلاء لن يخبرونكم كيف سنعيش أو ندفع فواتيرنا الشهر المقبل.
لن تفهموا إن كنتم شهوداً على ولادة عالم جديد أم هي مجرّد كارثة يغلّفها البؤس أو عكس ذلك كله؟ ستشغّلون الموسيقى والأغاني من النوافذ والشرفات. فقد رأيتمونا نفعل ذلك ونغنّي الأوبرا من قبل، وقلتم: “آه… هؤلاء الإيطاليون”. نعلم أنكم مثلنا ستغنّون أغنيات ترفع منسوب المعنويات في النفوس، ونحن حينما نسمع أصواتكم تصدح بأغنية I Will Survive سنتفهّم. تماماً مثلما غنّى سكان ووهان عبر النوافذ، ثم غنّينا نحن وتفهّمونا.
بعد النهم وحبّ الطعام، يأتي النعاس والتفكير المستمرّ في أوّل خطوة فور انتهاء الحجر المشؤوم. كُثُر يتعهّدون أمام أنفسهم في السرّ أنّ خطواتهم الأولى ستكون الشروع في إجراءات الطلاق، في مقابل آخرين أعطوا الفرصة لأجنّة تتكوّن في الأرحام.
سيدرس أبناؤكم عن بُعد، وسيتسبّبون لكم بإزعاج لا يطاق، لكنّهم في النهاية بهجتكم الوحيدة. أما ذووكم كبار السنّ، فسيتحوّلون إلى مراهقين مشاكسين، تقاتلونهم حتى لا يخرجوا ويلتقطوا العدوى ويموتون. ستطاردكم فكرة الموت وحيدين داخل غُرف العناية المركّزة، وسرعان ما تشعرون أنّكم مدفوعون بشغف إلى نثر الورود على عتبات الممرّضين والأطباء.
ستدركون أنّ المجتمع متّحدٌ فعلاً والجميع في سفينة واحدة. هذا صحيح. ستغيّر هذه التجربة نظرة كلّ من كان يظّن أنّه جزء منفرد مستقلّ عن المجتمع. لكن في المقابل، الطبقية ستتنفّس، فالحظر في بيت مع حديقة جميلة ليس كالحظر في مشروع سكنيّ يتكدّس في داخله البشر. كما أنّ القدرة على العمل من البيت ليست مثل أن ترى بأم عينك وظيفتك تتبخّر ودخلك يختفي. السفينة التي تحمل الجميع للانتصار على الجائحة لا تقدّم الميزات نفسها للجميع.
سيدرككم الرعب وستعبّرون عنه للأعزاء، أو تكتمونه في أنفسكم حرصاً عليهم أيضاً… وستأكلون من جديد.
هذا ما نعرفه في إيطاليا عن مستقبلكم. لا نضرب بالرمل لنكشف لكم الطالع، بل هو تنبّؤ بسيط يستشرف المستقبل المجهول ويقول: “مع انتهاء الأزمة لن يعود العالم كما كان من قبل”.