بيروت الثورة.. “أنتِ لي” وحدي

مدة القراءة 2 د


كاتيا خطار

بيروت، في مخيلتي، بدت مختلفة عن المدينة التي اكتشفتها مرّتين. كنت أعيش في القرية منذ ولدت. هناك، رسمت بيروت كما تخيّلتها: عاصمة مهمومة بالأشغال، منهكة دوماً، منهمكة بتعب النهار، منتظرة عودة السكان إلى بيوتهم حتى ترتاح، وحيدة.

لكن عندما انتقلت إلى العمل في المدينة قبل بدء ثورة 17 تشرين بأيام، اكتشفت بيروت كما هي للمرة الأولى: مجنونة بناسها وحيرتها. مدينة تحملنا كلنا، بما فينا تناقضاتنا وكرهنا، وحبنا.

في ذروة الثورة، رأيت بيروت تحضنني وتخبرني أن الانتظار بحدّ ذاته ينتظره أملٌ لا مفرّ منه. ثم، في المرة الثانية، تعرّفت إلى الجانب الآخر من هذه المدينة الساحرة: عزلة فيروس “كورونا”.

إقرأ أيضاً: حياة الناظر.. “غرافيتي” الثورة

وحيدة، مثلها، أمشي في شوارع الحمرا والجمّيزة وبدارو. هنا كنا نلتقي أيام الثورة. نتوزّع من الساحات إلى الحانات. منّا من يستطيع شراء قنينة بيرة ومنا من يبتسم قائلاً: “ما ع بالي”. في هذه الشوارع رأيت بيروت تغمرني مردّدة: “أنا إلكن كلكن، محلكن هون ووين ما كان”.

كنت أميّز الأثرياء في هذه الشوارع وأحسدهم ربما. أنظر إلى المباني مستفسرة من صديقاتي عن أسعارها، فتصيبني الخيبة، ثم تخبرني مدينتي: “الحياة عندي غير، هون أو بكورنيش المزرعة أو بالطريق الجديدة. بغرفة أو بقصر، المهم إنتي كيف بتشوفيني، وأنا كيف بحبك”.

يوماً بعد يوم، وبينما العزلة تجتاح المدينة بسبب “كورونا”، رحت أتنقّل في شوارعها كأنني طفلة وبيروت هي أمي التي فقدتها في انشغالاتها وحبها لغيري. أسير في الكولا وكورنيش المزرعة والجناح، ثم أعود إلى الحمرا والجمّيزة وبدارو.

أسير حابسة فرحتي بعزلتي. أنا معزولة عن كل من يحبك يا بيروت، إنني أمشي في عروقكِ وحدي، لا أحد غيري يفكّر بكِ الآن. كلهم خائفون. أسيرُ في خيالك وأراكِ في بحركِ وأزقتكِ وبيوتكِ الوثيرة والفقيرة، وروحك الأسيرة لحبنا، رغم قبحنا.

أمشي فيكِ وبينكِ. أسير منكِ وإليكِ. أرقص فرحاً.

بيروت.. أنتِ لي وحدي، في ثورتي، وفي عزلتي.

[PHOTO]

 

مواضيع ذات صلة

17 تشرين: خروج الشباب على الولاء للزعماء

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…

سوريّة – كرديّة: 17 تشرين جعلتني “لبنانية”

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…

بوجه من انتفضوا: المناهبة”(*) الخماسيّة؟ (2)

تحلّ الذكرى السنوية الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجوديّة متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في الحلقة السادسة ينشر “أساس” مقتطفات من فصل…

في انتظار تجدّد “يوفوريا” 17 تشرين

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً…