“استنشاق الموت”. أفكر بهذه الكلمات المقتطعة من سياق عبارة قالها إميل سيوران في كتابه “المياه كلها بلون الغرق”، وأنا أشاهد الفيديو الذي انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي لممرضة في مستشفى رفيق الحريري الجامعي وهي تتحدث عن يومياتها مع زملائها الأطباء والممرّضين والعاملين في المستشفى في مواجهة الكورونا. السيدة في الفيديو تدعى لارا. تتحدث من خلف كمّامتها وقناعها العازل، وثيابها العازلة البيضاء. لا يظهر من ملامحها سوى عينيها. وتتحدث وهي تبكي عن تجربتها مع مكافحة مرض كورونا في المستشفى الحكومي. تبكي حينما تذكر أمها مريضة السرطان التي لم ترها منذ فترة لكي لا تشكّل خطراً عليها. عن أولادها الثلاثة، آدم، إيليا ودانيال، الذين ينتظرونها ولا تستطيع رؤيتهم لأنها ارتضت أن تكون في الصفوف الأمامية في مواجهة الوباء الخطير الذي يضرب العالم ولبنان. تعيش لارا مع الكمامة على فمها وأنفها. تضعها بإحكام كي لا تستنشق الموت. لكنها حينما تبكي، تعرف أنها تستنشق الموت بعينيها. تراه هناك، حيث تكافح على الجبهة. تراه في معاناة المرضى، وفي العيون التي أطفأها الفايروس إلى الأبد.
إقرأ أيضاً: كورونا التراب وقدسيته… “بكنوز الدني”؟
مثل لارا العشرات، أطباء وممرضين ومسعفين وعمال نظافة وإداريين في مستشفى رفيق الحريري. هؤلاء يعيشون في مواجهة مباشرة مع المرض. وجهاً لوجه مع الأعراض. مع الحالات الحرجة ومع الخوف الذي يلمع في عيون الحاضرين إلى المستشفى لفحص أنفسهم وللتأكد من أن العوارض هي فعلاً لمرض الكورونا. ولن يكون هناك إمكانية للتواصل مع المرضى سوى بالعيون. سيكون على الممرضة أو الممرض، الطبيبة أو الطبيب، أن يبتسموا بعيونهم للمرضى لطمأنتهم. الكمامات تحجب ارتسامة الابتسامات على الشفاه. تحجب لمعة الأسنان. تحجب الضحكات. لكن العيون تبقى حاضرة ومتوقّدة. بالعيون وحدها يستطيع الطاقم البطل الذي يواجه المرض أن يحكي ويبتسم ويدعم ويحب. بالعيون ودمعها يستطيع الطاقم أن يستنشق الموت ويسجنه هناك في الحدقتين. يستطيع أن يستنشق الأسى ويذيبه بأسيد الدمع. بالعيون ودمعها يستطيع الطاقم الطبي تعقيم المعنويات من شبح الموت.
الإمكانيات المادية المتوافرة لدى الصليب الأحمر محدودة. ثلاثمئة شاب وصبية، أي ثلاثمئة عائلة تعيش حالة استثنائية في عدم قدرتها على اللقاء المباشر مع أبنائها
ليس بسيطاً ولا عادياً هذا الالتحام التطوعي مع المرض الذي أرعب العالم بأسره وأجلس المليارات في منازلهم في حجر صحي وقائي. ليس بسيطاً هذا الالتحام الطوعي الذي يقوم به مسعفو الصليب الأحمر الذين يحملون المرضى مع المرض من بيوتهم إلى المستشفى مع كل ما ينطوي عليه ذلك من خطر على حيواتهم وحيوات أحبائهم. هؤلاء اختاروا أن يهبوا أعمارهم للأمل، كما تقول أغنية للشيخ إمام من كلمات أحمد فؤاد نجم. لكن الأمل هنا، سيأتي، على عكس الأغنية. هؤلاء الأبطال يعلمون أنهم يهبون أعمارهم لأمل آتٍ لا محالة. الأمل بالانتصار على هذا المرض الفتّاك الذي ضرب الكوكب كله وشلّه. قلة قليلة هم، ثلاثمئة مسعف متخصص وضعوا من قبل الصليب الأحمر في مواجهة الكورونا، مع تخصيص إمكانيات خاصة لهؤلاء، لجهة الألبسة الوقائية ولجهة التعقيم. وكل عملية نقل لمريض كورونا يقوم بها هؤلاء تكلّف حوالى ثمانمئة وخمسين دولاراً.
والإمكانيات المادية المتوافرة لدى الصليب الأحمر محدودة. ثلاثمئة شاب وصبية، أي ثلاثمئة عائلة تعيش حالة استثنائية في عدم قدرتها على اللقاء المباشر مع أبنائها. مثلهم عائلات طاقم مستشفى رفيق الحريري الجامعي الطبي. وباقي الطواقم الطبية في المستشفيات الخاصة التي خصصت اقساماً لفحص المصابين المحتملين ومعالجتهم. هؤلاء جيش الدفاع الرئيسي عن اللبنانيين في مواجهة مرض الكورونا. وهؤلاء تقف الكلمات عاجزة عن إنصافهم، فـ”بالنسبة إلى من استنشق الموت، كم هي مؤسفة روائح الكلمات”. هذه تكملة العبارة التي قالها سيوران.