هي حرب كرامات بين رجلين ما عادت تتسع لهما الأمكنة. رجب طيب اردوغان، رئيس البلدية المميز، ثم رئيس حكومة تصفير المشاكل، ثم رئيس مُطلق اليدين والصلاحيات. شاء لاحقًا أن يصير سلطانًا على سجية محمد الفاتح. وقد بنى لهذه الغاية قصرًا أسطوريًا تجاوزت تكلفته المليار دولار، وانطباعًا عامًا يتجاوز الحقيقة ويغلبها. في موازاته يقف فلاديمير بوتين، الذكي الحذق الذي ترعرع في أقبية المخابرات، صار صيادًا ماهرًا وقنّاص فرص وحارقًا لقلوب العذارى. تدرّج في السياسة برشاقة الرياضي المحترف. من رئاسة الحكومة، إلى رئاسة الدولة، ثم إلى دغدغة حنينه لجوزف ستالين، وإلى تحقيق حلمه التاريخي بأن يصير قيصرًا متوّجًا بالذهب والانتصارات، ومُعمّدًا بالقوة والدم.
إقرأ أيضاً: العروبة تهزم أعلام الطاغية
هي حرب كرامات بين رجلين نزقين. إدلب وغيرها تفصيل صغير وعابر في معادلة الارتطام والتناطح. هما معًا يفهمان الحكاية ويتقنان فصولها. يوم أسقطت أنقرة طائرة حربية عند حدودها، قالت إنّها اخترقت السيادة ودخلت بضع سنتمترات إلى الأراضي التركية. ردّت موسكو بتكذيب الرواية، وقالت إنّ المقاتلة تعرضت للاعتداء ضمن الأراضي السورية، وإنّ أمتارًا تفصلها عن الحدود المرسّمة بين البلدين. كاد الاشتباك يومذاك أن يتحوّل إلى حرب ضروس، وقد بدأت طلائعها تطغى على كل المستويات، انطلاقًا من توتر سياسي وتراشق إعلامي لامس حدودًا غير مسبوقة، وصولاً إلى فرملة التبادل التجاري وتجميد العلاقات الاقتصادية التي تُعدّ واحدة من الأقوى والأمتن والأضخم على مستوى العالم برمته.
في زيارته الأخيرة إلى روسيا، انتظر أردوغان بضع ثوانٍ أو دقائق قبل أن يستقبله بوتين، وقد عمد الإعلام الروسي إلى توزيع هذه الصور باعتبارها صفعة مدوّية للسلطان الوليد، فيما سارع الإعلام التركي إلى الردّ بالمثل، عبر استحضار مقطع مصوّر يظهر القيصر وهو ينزل المنزلة نفسها ويتجرّع المهانة عينها خلال انتظاره أردوغان، وقد تأخّر عن موعده في موسكو. حتى بدا وكأنّ المعركة الملتهبة بين دولتين عملاقتين استحالت مماحكات شخصية بين رجلين توّرمت في رأسيهما الأنا على نحو لا يُطاق.
لكنّ هذا التورّم منوط بالواقعية في نهاية المطاف، وهما حيث يذهبان بعيدًا في سردية الاشتباك والكسر، يعودان معًا إلى الطاولة، وكأنّه قدرهما الناجز وواجبهما اللعين. الفارق أنّنا، نحن البائسون اليائسون، نهلّل ونرقص ونفرح، فيما ذاكرتنا المثقوبة شاهدة على سنوات خدّاعات ومثخنة بالتجارب والمرارة.
بدأت حكايتنا مع أردوغان من يوم مرمرة، تلك السفينة التي شاءت أن تكسر الحصار عن غزة الجريحة، وقد عاقبتها اسرائيل بهمجيتها. حينذاك ارتعدت فرائص أردوغان وجنّ جنونه، لكنّه ما لبث أن فاوض وتنازل، تحت الطاولة وفوقها، بعد أن أشبعنا كلامًا وخطابات. كنا يومها عطاشى، ليس لأننا نحبذ المواقف التي تضجّ في رؤوسنا كقرع الصنوج، بل لأننا نحنُّ ونشتاق لقماشة الرجال الرجال الذين يواجهون المخارز بعيونهم انتصارًا للحقّ والعدل والحقيقة، فلا يرتجفون ولا يتراجعون.
لا حاجة هنا لاستحضار الشواهد التي قد تبدأ بالتقاطع الفظيع للمصالح ولا تنتهي بالتكامل الموصوف مع داعش
لاحقًا بدأنا نصفق له بحرارة في سوريا. هناك حيث جرحنا النازف وكبوتنا الأكيدة. صار كلامه بوصلة التوّاقين للخلاص والانعتاق، لكنّه لم يكن سوى خنجر مسموم في خاصرتهم الرخوة وفي أحلامهم الطريّة. دمّرهم أردوغان جميعًا وفاوض على جثثهم وانتقم من حواضرهم ومدنهم بعد أن ساهم بإفراغها من تاريخها ومن حضارتها، وها هي حلب شهيدة وشاهدة على رغبته الدفينة بسحقها وكسرها كواحدة من أقدم وأشهى وأزهى المدن الاقتصادية في المنطقة.
لا حاجة هنا لاستحضار الشواهد التي قد تبدأ بالتقاطع الفظيع للمصالح ولا تنتهي بالتكامل الموصوف مع داعش. يكفي أن نُلقي نظرة بسيطة على ممارسته، انطلاقًا من لاءاته وخطوطه الحمر التي ساوت الأرض، وصولاً إلى السلاح النوعي الذي منع وصوله إلى فصائل المعارضة المسلّحة. هنا لا بد من الإشارة، على سبيل المثال لا الحصر، إلى مضادات الطائرات التي وصلت من أميركا إلى تركيا عبر قطر، لتعود أدراجها عبر القناة نفسها بعد سبعة أشهر من المماطلة والتسويف.
نحن بالأمس واليوم وغدًا، لسنا معنيّين من قريب أو بعيد بحرب الكرامات التي تخمد ثم تستعر بين أردوغان وبوتين، وبين ما قد يتفرّع عنها من استهداف محدود أو شامل للنظام السوري وحزب الله والميليشيات الإيرانية، وإن وجب علينا أن نختار بين هذا أو ذاك، فنحن قطعًا أقرب إلى اعتماد المعادلة الذهبية التي اعتدنا أن نقول في مطلعها: اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين غانمين.