التشكيلات القضائية “بتقطع”… بقوّة “17 تشرين”

مدة القراءة 7 د


خلال “مثول” عدد من القضاة أمام أعضاء مجلس القضاء الأعلى، في إجراء غير مسبوق في تاريخ العدلية، واكب التنقيح الأخير للتشكيلات القضائية، تم فرز هؤلاء القضاة ضمن فئتين: الأولى تمّ “امتحان” قدرات القاضي وصلابته في مواقف معيّنة. طُرِح مثلاً سؤال: “ماذا تفعل لو كنت مكان القاضية غادة عون (مدّعي عام جبل لبنان) لو تعرّضت للموقف نفسه في مواجهة نائب (هادي حبيش)؟ في الثانية تمّت مكاشفة قضاة عن السبب الذي سيحول دون تسلّمهم مراكز بارزة وشُرحت لهم أسباب تراجعهم في سلّم الترتيب.
لم يكن هذا المشهد مألوفاً. أجيال العدلية تشهد على نمطية متوارثة في اختيار السياسيين لقضاة على الـmenu. إختلف الوضع كثيراً مع مجلس القضاء الأعلى الحالي ورئيسه القاضي سهيل عبود، وقد ظهر التوجّه الواضح منذ البداية في إقرار تشكيلات قضائية بعيدة عن السياسة.

إقرأ أيضاً: غادة عون “لغم” التشكيلات القضائية

لكن ما إن وضع أعضاء المجلس تواقيعهم بالإجماع، للمرّة الأولى، على التشكيلات مع الأسباب الموجبة، حتى “دبّ المشكل”. قضاة هدّدوا بالإستقالة على رأسهم مدّعي عام جبل لبنان السابقة القاضية غادة عون، التي عُيّنت مسشارة في محكمة التمييز، ومعلومات عن توجّه وزيرة العدل ماري كلود نجم لردّ التشكيلات من أجل إعادة النظر ببعض الأسماء ومنهم بشكل أساسي قضاة محسوبون على رئيس الجمهورية ميشال عون والوزير جبران باسيل. وهناك سبب آخر هو ارتفاع منسوب الحساسية بين القضاة، وتحوّل بعض الأروقة القضائية إلى “غرف عمليات” لـ”ردّ العدوان”… مع السؤال الكبير: هل يوقّع رئيس الجمهورية التشكيلات أو يردّها إلى مجلس القضاء الأعلى؟
ترافق ذلك مع تسليم جهات قضائية محايدة “بظلم حقيقي لحقَ ببعض القضاة”، والمطالبة بأن “تتحقّق وزيرة العدل من ذلك خصوصًا أنّ تشكيلات تشمل 320 قاضياً يستحيل أن تكون مثالية ومطابقة للمعايير، فالأخطاء المقصودة وغير المقصودة قد تقع”. وتساءلت هذه الجهات: “هل سيمارس مجلس القضاء الأعلى أيضاً أحد أدواره الأساسية بالحفاظ على كرامة القضاء والقضاة؟”. ويجزم هؤلاء: “هذه تشكيلات ما بتقطَع”.
في المقابل يجزم فريق آخر من القضاة بأنّ “هناك حملة سياسية منظّمة ضد التشكيلات يديرها فريق رئيس الجمهورية فحوّلوها إلى ملف سياسي طائفي، مع الإيحاء الخبيث بأنّه تمّت مراعاة رئيس مجلس النواب نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط. وهذا الأمر غير صحيح”.
برأي هذا الفريق إنّنا نعيش “لحظة حاسمة يمكن للسلطة السياسية أن تبرهن خلالها أنّها تدعم مطلب استقلالية القضاء. فاحترموا قرار أعضاء مجلس القضاء الأعلى الصادر بالإجماع، مع حقّ وزيرة العدل بإبداء الملاحظات، والقرار الأخير لأعلى سلطة قضائية… أما توقيع رئيس الجمهورية فهو الاختبار الأهمّ للعهد”.
ويقول مطّلعون إنّه إثر اجتماع وزيرة العدل مع الرئيس عون ظهر تبدّل في موقفها من “لن أتدخل وسأوقع” إلى “لست ساعية بريد”، ما حوّلها إلى خط دفاع أول بالنيابة عن بعبدا. وهذا ما يطرح تساؤلات، خصوصاً أنّ “المواقع المشكو منها بشكل أساسي لدى ماري كلود نجم مرتبطة بقضاة عيّنوا في التشكيلات الماضية من حصّة رئيس الجمهورية، وباتوا اليوم في مواقع أدنى رتبة بكثير، مع الإشارة إلى أنّ غادة عون لن تبقى مستشارة في محكمة التمييز وستنتدب على الأرجح لاحقاً رئيسة لمحكمة التمييز العسكرية”.
في المقابل تؤكد أوساط مجلس القضاء الأعلى أنّها “المرّة الأولى التي يشعر مجلس القضاء بقوّته ونفوذه القائم على الالتزام باحترام المعايير الموضوعية بنسبة كبيرة جداً. ولذلك لا تردّد، بل هناك إصرار على الأسماء التي نوقش كل اسم منها باسمه، وصدرت بالإجماع، وهذه سابقة”.
وتلفت الأوساط إلى أنّها “المرة الأولى منذ اتفاق الطائف تصدر تشكيلات قضائية صافية، وليست سياسية. واليوم مطلوب من السلطة إثبات أقوالها باحترام استقلالية القضاء، والمحاسبة تكون على النتائج وإنتاجية القضاة بوصفهم فريق عمل السلطة القضائية لتطوير وتعزيز عمل القضاء ونقله من مرحلة إلى أخرى… انتظروا واحكموا”.
هكذا يستند مجلس القضاء الأعلى إلى “وهج” ثورة 17 تشرين الأول، التي تقف خلف تغييرات كبيرة، ليس أوّلها نقيب المحامين “غير المسيّس”، ولن تكون آخرها تشكيلات قضائية تحمي المواطنين من تحكّم السياسيين بالقضاء.
واليوم فإنّ عدداً كبيراً من القضاة المتضرّرين من التشكيلات يقفون خلف القاضية غادة عون “لأخذ حقّها… وحقّهم”، بوصفها “اللغم الأكبر” والأكثر تسييساً المرتبط مباشرة بالقصر الجمهوري. عون التي تحاول الإيحاء بأنّ خلافها مه هادي حبيش سيكون وراء “تطييرها”، فيما يعرف القاصي والداني أنّ السبب هو عشرات الشكاوى ضدّها في “التفتيش القضائي”، أسوةً بغيرها ممن أزيحوا من مناصبهم بسبب الشكاوى أو بسبب إحالة بعضهم إلى “المجلس التأديبي” للقضاء.
ومن “تويتر” الذي لجأت إليه لتتحدث عن “التشكيلات الانتقامية”، في مخالفة مسلكية صريحة لقاضٍ في الخدمة، مروراً بشاشات التلفزيون وصولاً إلى “الوكالة الوطنية” أعلنت غادة عون باسم العهد، الحرب على مجلس القضاء “التشكيلات مجحفة في حقّي وفي حقّ كثيرين من القضاة الآخرين، وهي شخصانية انتقامية، ونحن بانتظار تصحيح هذا الخلل في المعايير وفي التقويم من قبل وزيرة العدل ماري كلود نجم ومجلس القضاء الأعلى”.
بكل بساطة هناك قاضٍ يتمرّد على أعلى سلطة قضائية مستنجداً بالسلطة السياسية, لكن خلف عون يقف قضاة مذهولين من استبعادهم لأكثر من سبب، برأيهم: سياسي، انتقامي، كيدي، حسابات ضيقة، خلل في تطبيق المعايير… ويتحدثون عن “ظلم وافتراء”.

إقرأ أيضاً: الحاكمون بأمر التشكيلات القضائية… خارجها

بعض هؤلاء القضاة لحقتهم حملة تشهير منظّمة شكّلت أذىً مباشراً لهم في التشكيلات. يقول مطّلعون مثلاً إنّ معاون مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي هاني حلمي الحجار، الذي عُيّن مستشاراً في محكمة الاستئناف بأقلّ بكثير من درجاته الحالية (كان مستشار رئاسة الحكومة في عهد الرئيس سعد الحريري) هو نموذج من القضاة الذين غلبهم الخبث السياسي، وذلك من خلال الترويج المنظّم، والكاذب، بأنّه أحيل الى التفيتش القضائي. إضافة الى ملفّه القضائي النظيف. وأروقة القضاء تشهد على المنازلة غير المفهومة التي خاضها ضدّه وزير الدفاع السابق الياس بو صعب، ما قاد وزير العدل السابق ألبير سرحان إلى التأكيد أنّه لم يُحِله إلى التفتيش، فيما استقبله رئيس الجمهورية شخصياً بعد تيقّنه من وجود محاولة لـ”تشويه صورته”.
وأيضاً تمّ استبعاد قاضي التحقيق العسكري نجاة بو شقرا بعد عشر سنوات من العمل في المحكمة العسكرية، حيث كان يفترض أن تُعيّن في موقع قاضي التحقيق العسكري الأول (عُيّنت نائباً عاماً استئنافياً في النبطية) بعد تزكية جنبلاط لها منذ نحو سنتين. فاعتبر الأمر بمثابة تزكية سياسية مسبقة “ما بتقطع”. وقد عُيّنت القاضية غادة بو علوان (من دورة بعد دورة بو شقرا) قاضي تحقيق عسكري أول. وعُيّن القاضي الدرزي عماد سعيد، الأعلى درجة من بو علوان، قاضياً للتحقيق العسكري.
يقول مطّلعون: “حتى لو أنّ القانون لا يشترط أنّ قاضي التحقيق الأول يجب أن يكون أعلى من قضاة التحقيق، لكن في مثل هذه الحالة فإنّ اثنين من القضاة الدروز في الدائرة نفسها، يُعيّن قاضي التحقيق العسكري الأول صاحب الدرجات الأقل، فيما المعايير يجب أن تُستوحى من القاعدة العامة بأن يرأس الدائرة القضائية من هو أعلى درجة وليس العكس”.

مواضيع ذات صلة

إسرائيل تضرب حيّ السّلّم للمرّة الأولى: هل تستعيده الدّولة؟

بقي حيّ السلّم على “العتبة”، كما وصفه عالم الاجتماع وضّاح شرارة ذات مرّة في كتابه “دولة حزب الله”. فلا هو خرج من مجتمع الأهل كليّاً…

أمن الحزب: حرب معلومات تُترجم باغتيالات (2/2)

لا يوجد رقم رسمي لمجموع شهداء الحزب في حرب تموز 2006، لكن بحسب إعلان نعي الشهداء بشكل متتالٍ فقد تجاوز عددهم 300 شهيد، واليوم بحسب…

أمن الحزب: ما هو الخرق الذي سهّل مقتل العاروري؟ (2/1)

سلسلة من الاغتيالات طالت قيادات من الحزب وحركة حماس منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) على وجه التحديد توّجت باغتيالين كبيرين. الأوّل اغتيال نائب رئيس…

النزوح السوريّ (3): النظام لا يريد أبناءه

12 سنة مرّت على وصول أوّل نازح سوري قادم من تلكلخ إلى عكار في لبنان. يومها اعتقدت الدولة اللبنانية أنّها أزمة أشهر، أو سنة كأبعد…