السيدات والسادة في منظمة الصحة العالمية،
تحية طيبة وبعد…
دعوني أعرّفكم بنفسي قبل الخوض في قضيتي وشكواي، والشكوى، كما تعلمون، لغير الله مذلة. أنا أدعى “بر الياس”، قرية لبنانية صغيرة في قضاء زحلة في البقاع اللبناني. أرتفع حوالى تسعمئة متر عن سطح البحر المتوسط، وأبعد حوالى خمسين كيلومتراً عن العاصمة بيروت. اسمي أصله آرامي، ومعناه “بر: الحقل، إلياس: الخصب”. ومن اسمي تبدأ الحكاية. فأنا أعيش على خصوبة نهر الليطاني الذي يمرّ في مروجي وسهولي. منه سقيت على مرّ العصور زراعاتي، ومنه شربت، وبه سبح ولعب أبنائي، أطفالاً وشباباً وكهولاً. كان النهر دائماً مصدر حياة وغنى لي ولأبنائي، وكان أشبه “بتبر سايل بين شطين” على ما تقول أغنية عبد الحليم حافظ عن نهر النيل.
لكن، تغير كل ذلك في السنوات الأخيرة. تحوّل النهر إلى صانع للأرامل والأيتام. صار يتدفّق موتاً وحزناً، ويجفّ رويداً رويداً، فيما تفيض العيون بالدموع. لقد لوّثوا النهر بما لا يمكن تخيّله من ملّوثات صناعية، مئات المتعدّين على النهر يقتلون أبنائي يومياً بالصرف الصناعي والصحّي. أبنائي يتّشحون بالأسود منذ ما يزيد على خمس سنوات، بشكل متواصل. لم تسنح لنا فرصة في السنوات الخمس الماضية لفكّ الحداد. وفي كل بيت من بيوتي تجدون إما حزناً على فراق، أو معاناة من سرطان. صرت أكنّى بضيعة السرطان. يموت أبنائي بمعظمهم من “هيداك المرض” الذي نتفادى تسميته. كدنا ننسى الموت بأسباب أخرى. لا تتعدّد اسباب الموت عندنا، بل يكاد السرطان أن يعادل الموت.
إقرأ أيضاً: بورتريه للكورونا في مستشفى رفيق الحريري
أتشجّع اليوم وأكتب إليكم، بعد صمت سنوات، لأنني سمعت وقرأت ما يستفزني حقاً. قرأت استنفاركم مع باقي المنظمات الصحية الدولية لمكافحة مرض “كورونا”. وهو وباءٌ خطير بلا شكّ، لكن أتمنى منكم أن تهبوني دقائق قليلة من وقتكم لتقرأوا هذه الرسالة، وتتعرفوا إلى قصتي، ولكم أن تحكموا بعد ذلك. سمعت وقرأت عن الكورونا، ورأيت الخوف في عيون الناس من أبناء بلدي لبنان مع اكتشاف بضع حالات أُصيب بها أبناء أعزاء. وقامت القيامة ولم تقعد. عقد وزير الصحة مؤتمراً صحافياً، وبجانبه كانت ممثّلة عن منظمتكم. وقال إنه لا داعي للهلع. بضع إصابات بالكورونا سبّبت حالاً من الهلع الشديد، مع أنني قرأت وسمعت أن نسبة الموت بهذا المرض، على خطورته، لا تتجاوز الاثنين في المئة في العالم. في لبنان نعاني من وجود بضع حالات لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، من أصل ما يزيد على ستة ملايين نسمة يعيشون فوق الأراضي اللبنانية، ومع ذلك سرق الكورونا انتباه الجميع: الناس، الدولة، الإعلام، مواقع التواصل. الجميع يتحدثون بمرض الكورونا، وخطورته على الصحة، وضرورة مكافحته. وهذا يستفزني. يقهرني. فأنا منذ سنوات أعاني مع قرى مجاورة من معدلات عالية من الإصابة بمرض السرطان.
نحن نموت ببطء، نذوي كشمعة في ظلام دامس. مرضنا غير معدٍ، لكنّه فتاك
لديّ 600 حالة سرطان حالياً من أصل 12 ألف نسمة يعيشون على مساحتي، أي بمعدّل خمسة في المئة. توفي العشرات قبل ذلك بالمرض نفسه. يكاد لا يخلو بيت على أرضي من حضور لهذا المرض القاتل. ففي أستراليا مثلاً تسجّل أعلى نسبة إصابة بالسرطان بمعدل 468 إصابة لكل 100000 نسمة. تخيّلوا! هذا الرقم هو الأعلى في العالم لنسبة الإصابة بالسرطان. أعلى بعشرة أضعاف من أستراليا يا جماعة! أضع بين أيديكم جدولاً صدر ضمن تقرير مشترك للجنة الإدارة والعدل والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، يظهر حجم المصيبة التي أعاني منها مع أبنائي الأحباء، ومع القرى المجاورة العزيزة: حوش الرافقة، تمنين التحتا، القرعون، المرج، المنصورة، غزة، حوش الحريمة، الروضة، الدلهمية، والفرزل.
السيدات والسادة في منظمة الصحة العالمية،
نحن نموت ببطء، نذوي كشمعة في ظلام دامس. مرضنا غير معدٍ، لكنّه فتاك. وأسبابه مفهومة وواضحة ولا أحد يتحرك لإنهاء معاناتنا وإنقاذنا من أنياب وحش التلوث الذي يفتك بنا. نعلم تماماً أن الوضع الصحي العالمي الحالي حرج. لكننا نعلم أيضاً علم اليقين أن العالم سينتصر على الكورونا. حينذاك، يمكن للعالم أن يتنفس الصعداء، فبالله عليكم لا تتركونا وحدنا في مواجهة السرطان.
[PHOTO]