موريس. مواطن لبناني نموذجي يُحبّ الحياة. متزوج وله ولدان ويعمل في مجال الخدمات والعلاقات العامة. حجم أعمال موريس يقارب 100 مليون ليرة لبنانية، تدرّ عليه قرابة 4 ملايين شهرياً. يدفع منها مليون ليرة راتباً لتهاني السكرتيرة، التي يخرج معها سرّاً بين الحين والآخر من خلف زوجته سعاد. مليون آخر يصرفه موريس على إيجار المنزل، كما يدفع 600 ألف بدل سَنَدَين مصرفيين عن السيارة التي اشتراها بالتقسيط وعن تلفازه الذكي الذي يشاهد عليه أفلام ومسلسلات “نتفليكس”. 600 ألف ليرة أخرى يُخصّصها موريس لأقساط ولدَيه في مدرسة خاصة، فيبقى له 800 ألف. يعطي سعاد 200 ألف مصروفاً شهرياً، ويعتاش على قليلِ ما تبقّى (400 ألف) لشراء مأكل ومشرب وملبس لعائلته، ويقترض من الأصدقاء في أوقات الحشرة. بمعنى آخر، موريس كان “مستوراً”.
في الآونة الأخيرة، تراجع العمل وشحّ الزبائن. ولأنّ مسؤوليات موريس كبيرة ولا تنتظر، أُجبِرَ على “تلبيس الطرابيش” و”اللَعبَجة” والكذب. صار يتقاضى الأموال من الناس ويتأخر في إنجار العمل. ذاع صيت موريس السيّء وما عاد الزبائن يقصدونه، حتّى فاق الأمر قدرته على الاستمرار.
آبَ موريس إلى بيته ذات يوم، وقال لزوجته: “الوضع صعبٌ يا سعاد وعلينا أن نشدّ الأحزمة. لن تنالي مصروفَكِ هذا الشهر وسنستغني عن الكماليات. لا نزهات، لا مطاعم، لا مقاهي، ولا تسوّق بالمولات… نشتري الضروريات ولا هدر بعد اليوم”، ثم اتصل بتهاني وأبلغها بخصم راتبها إلى النصف.
مع الوقت، ازداد حال موريس سوءاً، ولم يعد موريس قادراً على تسديد ديونه وتلبية حاجيات منزله. التقشّف وسدّ المزاريب لم يسعفاه في خطة شدّ الأحزمة. موريس يعاني من شحّ في الموارد مقابل مصروف كبير أو ما يُسمى اقتصادياً “عجز الموازنة”.
إقرأ أيضاً: خالد زيدان عن الحلّ: إقفال شركة الكهرباء
يستحيل أن يكون أحد منّا لم يسمع بالمثل القائل: “كلّما زاد المدخول زاد المصروف” والعكس صحيح طبعاً. فلنتذكّر دوماً أنّ الأمر ينطبق على الدول. وعليه، فإذا أردنا إسقاط حال الرجل على أزمتنا، فلبنان هو “موريس”، سعاد وولداها هم المواطنون، فيما سندات موريس هي الدين العام، ومصاريف بيته هي النفقات ودخله هو الإيرادات. أما تهاني التي وظفها لجمالها لا لحاجته إليها، فهي العلاقة المشبوهة، فيما سمعة موريس هي فساد الدولة.
وإذا استمرينا في الإسقاط، فإنّ الملاحظة الأولى التي نسجّلها في هذا الصدد هي الحديث الدائم عن الدين العام والزيادات التي طرأت عليه من دون الحديث في موازاة ذلك عن زيادة الدخل القومي. بمعنى آخر، حين يُقال إنّ الدين العام كان بين 7 أو 9 مليارات دولار بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب الأهلية (سندات ومصاريف مترتبة على موريس). كان يُغفل دوماً عن قصد أو غير قصد، أنّ الدخل القومي في حينه (حجم أعمال موريس بصفته لبنان بقطاعيه العام والخاص) كان أيضاً بين 9 و11 مليار دولار.
أما اليوم، وبرغم أنّ الدين ارتفع إلى نحو 85 ملياراً، فإن الدخل القومي ارتفع أيضاً إلى 57 مليار دولار. لكن الأمور كانت “مستورة” على طريقة موريس قبل وقوعه في العجز. فالازدهار في حجم الأعمال الذي يُعرف اقتصادياً بـ”نسبة النمو” التي يُغفلها كثيرون في حديثهم عن الأزمة اللبنانية، التي باتت اليوم “نمواً سالباً” (تحت الصفر في العام 2019) هي رافعة موريس الدائمة على تخطّي العقبات قبل تراجع أعماله برغم هدره وفساده وعلاقاته المشبوهة.
بحسب أرقام صندوق النقد الدولي، فإنّ الدين العام في أفغانستان يبلغ 8 % نسبةً إلى دخلها القومي، لكنّ مركزها الاقتصادي في الترتيب العالمي هو 113. أما اليابان فيبلغ دينها 238 % فيما اقتصادها الثالث عالمياً. ديون اليابان هي الأضخم عالمياً، لكن يغطيها دخلٌ قوميٌّ يقارب 5.1 تريليون دولار، بينما حجم اقتصاد أفغانستان 18 مليار دولار فقط.
موريس مطالب بالتخلّي عن علاقته المشبوهة بتهاني، وبإعادة بناء سمعته بين الناس، وبالحفاظ على إجراءات التقشّف داخل بيته بكل تأكيد
بكلام آخر أيضاً، فإنّ حجم الدين ليس بالضرورة معياراً للتعثّر أو للازدهار، لأنّ الأزمة يحكمها عنصر نادراً ما نتطرّق إليه هو “النمو”، الذي يمثّل قدرة موريس (لبنان بقطاعاته كاملة) على زيادة حجم الأعمال وجلب الأموال باضطراد حتى يتمكّن من الاستمرار.
موريس اليوم بحاجة إلى جرعة إنعاش. هو بحاجة إلى الاستدانة حتّى يعود بقوة إلى سوق العمل ويتعافى. الطرفة أن الاستدانة هي الحلّ الأوحد أمام موريس. لكن في المقابل، موريس مطالب بالتخلّي عن علاقته المشبوهة بتهاني، وبإعادة بناء سمعته بين الناس، وبالحفاظ على إجراءات التقشّف داخل بيته بكل تأكيد… وإلاّ على موريس السلام.
[PHOTO]
[PHOTO]