يُسمّيهم الأمين العام لحزب الله بـ”الأصدقاء”، ونحن ندعوهم بأسماء مختلفة، كلٌّ على شاكلته وتاريخه ووظيفته وطبيعة علاقته بهذا الحزب. الثابت الوحيد في السرديات كلّها أنّهم قد يلعبون أيّ دور يُطلب منهم، من تصدّر الصفوف في الاحتفالات المركزية، مرورًا بتشكيل الخلايا العسكرية تحت لواء سرايا المقاومة، خصوصاً لدى أهل السنّة، وصولًا إلى رأس حربة تخترق الخواصر الرخوة لمختلف البيئات السياسية والاجتماعية التي تناصب حزب الله الخلاف أو العداء.
بين هؤلاء جميعًا تحضرنا أسماء كثيرة. بعضها صنعها حزب الله واخترع لها حيثية سياسية واجتماعية وخدماتية، وهذه بطبيعة الحال هي الفئة الأحطّ قدرًا والأقل قدرة وهامشًا على المناورة أو الرفض. آخرون استغلّ حزب الله حاجتهم إليه وإلى تغطيته السياسية والأمنية، كونهم يعانون ضمن مجتمعاتهم من خطاب أو ممارسة لا تنسجم مع المزاج العام، وهم في ذلك يتصارعون مع من يختصر وجدان قومهم وكثرتهم الكاثرة، فيصير حزب الله طوق نجاتهم وسبيلهم الوحيد لاصطياد دور أو حضور أو منصب، مقابل أن يتراصفوا إلى جانبه في الملمّات والثوابت الكبرى، والتي قد تبدأ بقدسية السلاح والمقاومة التي وسّعت نشاطها العسكري من بيروت إلى مختلف عواصم العرب وحواضرهم، ولا تنتهي قطعًا بضرورة الالتزام السياسي بالقرارت المركزية الداخلية التي تتخذ طابعًا شديد الأهمية، كانتخاب رئيس للجمهورية أو تكليف رئيس للحكومة، فيما تُترك لهم حرية الرأي والاختيار في المماحكات المناطقية أو في النقاشات والصغائر.
إقرأ أيضاً: دفاعاً عن حسن نصرالله… ولكن!
يبقى أن نشير إلى المستوى الأكثر ارتفاعًا. وهي تحديدًا علاقة الندّ التي تقوم على المصلحة المتبادلة بين طرفين. وهذا ما تُجسّده العلاقة بين التيار الوطني الحر وحزب الله، وتُجسّده أيضًا، لو على نحوٍ مغاير ومختلف، علاقة الأخير بسليمان فرنجية. الثابت في العلاقة الأولى هو البعد الاستراتيجي والمكاسب الجماعية، حيث أنّ ورقة مار مخايل، مثلاً، أسّست في مفاعيلها المباشرة لوصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، مقابل تأمين الغطاء الوطني لحزب الله وسلاحه وشرعيته. لكنّ المضامين العميقة في العلاقة تجاوزت هذا المعطى، رغم أهميته ومركزيته، لتلامس الهواجس المشتركة من لعبة الطوائف، لا سيما تلك التي تستند إلى بحر عربي هائل. وبعد، كان لا بدّ من اللقاء بين الأقليات. وسليمان فرنجية خارج هذا الإطار، يجلس مرتاحاً في عرينه، مطمئنّاً إلى أنّ عروبته، ولو أنّها سورية الهوى، هي مدخله إلى الرئاسة التي ينتظرها.
ثمّة بين الحالات الثلاث حالة رابعة، وهي حالة عفوية وصادقة أخذت تتقلّص تباعًا على وقع الممارسات التي بدأها حزب الله منذ السابع من أيار 2008، ثم ازدادت تقلّصًا واضمحلالاً عقب المشاركة النافرة في الحرب السورية، مع ما يعنيه ذلك من صفعة مدويّة لكلّ المراهنين على مصداقية حزب الله ونبله وقدسية أهدافه، ونحن قطعًا من هؤلاء. ولا بدّ أن نعترف بأننا كنا مُضلَّلين وواهمين حين ظننا بأن حزب الله يختصر جزءًا أساسيًا من غيرتنا ورغبتنا وجنوحنا التوّاق نحو منتهى الكرامة والصلابة والشجاعة.
لمن توجّه الأمين العام في خطابه الأخير؟ ومن هم الأصدقاء الذين حذّرهم وأنذرهم على هذا النحو المذلّ والمُهين؟ سؤال لا بدّ من الإجابة عليه بعناية وانتباه.
المطلوب حصرًا أن يصمتوا ويصفّقوا ويبرّروا للرأي العام أيّ موبقة مهما كبرت أو صغرت، وحتى لو كانت على شاكلة عاصفة أو زلزال
الأكيد أنّه لم يقصد جبران باسيل، على اعتبار أنّ العلاقة بين الطرفين لا تحتمل هذا النوع من الخطاب أو التهديد، خصوصًا وأنّ جبران لا يترك مناسبة دون التلويح بفداحة الأثمان التي دفعها وتياره على مذبح ورقة التفاهم، وقد أشار أكثر من مرّة في مجالسه المغلقة إلى إمكانية نسف العلاقة وكسر التحالف، وهو يسعى بذلك إلى الاستمرار في ابتزاز الحزب: “أعطيك الغطاء السياسي وأحصل مُقابله على كلّ شيء”.
يبقى أنّه يقصد حصرًا أولئك الذين اشترى ذممهم واخترع لهم حيثية سياسية واجتماعية، فضلاً عن مجموعات كبيرة من الشخصيات والأحزاب التي تلعب دور الأداة في تنفيذ المآرب. وهؤلاء لا رأي لهم ولا طاعة. المطلوب حصرًا أن يصمتوا ويصفّقوا ويبرّروا للرأي العام أيّ موبقة مهما كبرت أو صغرت، وحتى لو كانت على شاكلة عاصفة أو زلزال.
بعضهم امتعض من إخلاء سبيل العميل السفّاح عامر الفاخوري، وقد شعر بأنّ كرامته لا تحتمل هذا الكمّ من الإهانة والهوان، فقال ما قال معترضًا وناقدًا، قبل أن يعود الأمين العام ليصفعه بكلّ يده، وليخبره بأنّه مجرّد أداة مسحوقة الكرامة، ممنوع عليه أن ينبس ببنت شفة، وهذا إنذار أخير قبل أن يعيدهم إلى حقيقتهم وإلى حيث كانوا: كومة من رماد أو غبار.
إنتظرت أسبوعًا قبل الكتابة عن هؤلاء الذين نعرفهم جيدًا، ويعرفون أنفسهم واحدًا واحدًا. كنت أظن أنّ في وجوههم ماء أو حياء. لكنني أخطأت، ثم أدركت أنّ المواقف لا يصنعها إلاّ الشجعان، لا مجموعة من الأزلام.