.. كثيرة هي التحليلات التي تسعى إلى رسم خارطة السياسة السعودية في لبنان فتحوم ما بين الرغبة الشخصية تجاه هذه السياسة، وما بين التوظيف الذي يخدم مشروع مشغلها في عالم التحليل والتعليق.
السياسة السعودية في لبنان من بساطتها وسهولتها تكاد تكون السهل الممتنع بالنسبة للخصوم والحلفاء وما بينهما الأصدقاء. منذ عهد المؤسس المغفور له الملك عبد العزيز والسياسة السعودية تقوم على دعم لبنان ووحدته والرسالة التي يؤديها في المحيط العربي والإسلامي كواحة التعايش بين الأديان والمذاهب وكمنصة استنتشاق الهواء سياسياً وثقافياً واجتماعياً. وقد تكرست هذه السياسة مع الملوك الذين تعاقبوا على المملكة العربية السعودية حتى وصلت إلى أبهج صورها في المساعدة الكبرى التي قدمتها المملكة عبر إنهاء الحرب الأهلية في الجانب السياسي والمتمثلة باتفاق الطائف، وفي الجانب الاقتصادي من خلال إعادة الإعمار والدعم المالي للاقتصاد اللبناني عبر الودائع وسلسلة الهبات في شتى القطاعات. ودائماً كانت هذه المساعدات موجهة للشعب اللبناني بكافة طوائفه ومذاهبه دون تفضيل أو تخصيص لطائفة دون أخرى.
هي سياسة عجز اللبنانيون كافة بكافة طوائفهم على فهمها واستيعابها، الحلفاء رأوا فيها خرقاً لمنطق التحالف كونها تشمل الخصوم كما تشمل الحلفاء. والخصوم نظروا بريبة وحذر إليها كونها تخالف كافة المحاور التي ينتمون إليها والتي تنظر إلى لبنان كمجموعات متناحرة مطلوب منها دعم إحداها ضد الآخرين…
وفقاً لهذه المشهدية كانت السياسة السعودية في لبنان موقع انتقاد سياسي محلي عند الحلفاء والخصوم.
في المرحلة الحالية للمرة الأولى يصيب اللبنانيون بالقول إن تغييراً طرأ على السياسة السعودية في لبنان؟ فقد أحس الساسة والمحلّلون في لبنان في لمس هذا التغيير لكنهم كالعادة ما لبثوا أن وقعوا في خطأ تحديد ماهية هذا التغيير.
على اللبنانيين أن يدركوا أن زمن “أعطيه من بيت المال” قد انتهى كلياً في المملكة العربية السعودية
لم يعد سراً أن الملف اللبناني في المملكة بات بإشراف مباشر من الأمير خالد بن سلمان نائب وزير الدفاع واليد اليمنى في القضايا الخارجية لشقيقه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
لقد كان واضحاً الأمير خالد برؤيته ورؤية المملكة للملف اللبناني بداية في الحوار المصورِ في أواخر شهر كانون الثاني الفائت مع موقع “فايس الأميركي” ومن ثمَّ عبر التغريدة التي نشرها على صفحته بتويتر في ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وما بين الموقفين كان بارزاً قبل أيام تصريح الأمير تركي الفيصل حول مدى إمكانية مساعدة لبنان حيث شدد على ضرورة تغيير “البنية السياسية” بكل ما تعنيه مفردة “بنية”؟
على اللبنانيين أن يدركوا أن زمن “أعطيه من بيت المال” قد انتهى كلياً في المملكة العربية السعودية، كما قيل لأحد رؤساء الحكومة السابقين في الرياض، فكما أن لا ثقة للشعب اللبناني بالسلطة ورجالاتها فإنه لا ثقة للمملكة بالبنية السياسية الحالية. وبناء على ذلك فإن بوابة الإصلاح بين لبنان والمملكة العربية السعودية لا تبدأ من تمثال قاسم سليماني الذي رُفع مؤخراً على الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة بل يبدأ من تمثال الشهداء حيث يجاوره ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فهناك اجتمع اللبنانيون مطالبين بالتغيير وطرد الفاسدين.
السعودية وللمرة الأولى تريد استقرار لبنان ووحدته ومحاسبة الفاسدين والذي لا يمكن أن يحصل إلا عبر تغيير البنية السياسية، وإضافة عليه عدم العدائية أي إنها تريد لمنصة استنشاق الهواء السياسي والثقافي والإجتماعي أن لا تتحول إلى منصة عدائية للمملكة وللعرب. وهو ما تُرجم بمصطلح الميقاتية السياسية نسبة للرئيس نجيب ميقاتي بسياسة “النأي بالنفس”.
… هل الأمر صعب على اللبنانيين؟
… السلوك السياسي حتى الآن يظهر الأمر وكأنه مستحيل لا بل أكثر من ذلك يظهر اصراراً عند البعض في معاداة السعودية والعمل ضدها والتآمر عليها من لبنان. هو سلوك المغامرين بمصائر الناس في أرزاقهم وفي معاشهم وفي استقرارهم. فما هو المخرج؟!
تساؤل صعب لكن الإجابة غير مستحيلة من المؤكد أنها غير موجودة في مقال صحفي، ولا في بيان حكومي بل وجودها يكون عبر الممارسة السياسية وهنا يقول البعض “من جرب مجرب كان عقله مخرب”.
في الختام قد يكون تأمل نشاط سفير المملكة في بيروت وليد البخاري تحت عنوان “فنجان قهوة” وما يهدف إليه من حوار يظهر الهوة بين ما تفكر به المملكة تجاه لبنان وما يفكر به اللبنانيون تجاه المملكة، ولكلَّ فيما يفكر نصيب بنتائج أعماله.