4000 دولار شهريًا. ندفع منها أقساط المدارس وإيجار البيوت وفواتير الكهرباء والهاتف والانترنت، قبل أن نعود لنأكل منها ونشرب. 400 دولار شهريًا يريدنا حاكم مصرف لبنان أن نشحذها ونحن نقف أذلاء مرغمين أمام فروع المصارف، ننتظر دورنا الذي لا يأتي، لنحصل على فتات ما جمعناه كل العمر، وأودعناه في جيوب حفنة من السارقين والنصابين.
400 دولار هو المبلغ المسموح لك أن تأخذه كل شهر من حسابك في دولة يقول رئيس مجلس نوابها إنّ أصحاب خمسة مصارف حوّلوا ما يفوق ملياري دولار إلى خارج لبنان بلا حسيب أو رقيب، فيما تتناقل وسائل الإعلام أخبارًا لا تُعد ولا تُحصى عن ملايين الدولارات التي هُرِّبت ولا تزال من حسابات السياسيين والنافذين ومجموعة من الأوليغارشيين الذين نهبوا البلد على مدى العقود الماضية.
ليس ثمّة إهانة تتجاوز هذه الإهانة. ولو أنّ مسؤولاً واحدًا يحترم نفسه في هذه الدولة التافهة، لأقدم فورًا على الاستقالة أو الرحيل، لكنهم ينتمون جميعًا إلى منظومة جشعة لا تشبع، وقد فقدت حياءها وإنسانيتها وماء وجهها، ووصل بها النكران والانفصام إلى حدود الوضاعة القصوى إزاء شأن عام بات يتخطّى منطق الكيد والمماحكة، ويلامس انهيار البلاد برمتها على رؤوس قاطنيها.
يتدلّع هؤلاء وهم ينتقون كلماتهم الممجوجة والمكررة، وكأنّها نسخة طبق الأصل عن وجوههم التي لم تتغيّر ملامحها منذ وعينا الأوّل. نعرفهم واحدًا واحدًا. قاتلاً قاتلاً. سارقًا سارقًا. زعماء أزقة وحروب ودماء. نعرفهم ونعرف من أين أتوا وكيف صاروا رؤوس الدولة وكبارها بعد أن شاركوا جميعًا في هدمها وسحقها وتدميرها.
لا مناط من هدم هذا الهكيل، المتورّم، فوق رؤوسهم جميعًا، إنطلاقًا من المصارف التي شكّلت الحاضنة الأعمق لنفوذهم وسطوتهم
الأكثر استفزازًا في درك هذا المستنقع هو الإصرار على المناورات السمجة. جميعهم يريدون محاربة الفساد وتطوير النظام واستعادة الأموال المنهوبة، والكلّ ينفض يده ويتهم سواه بالصغائر والموبقات. فيما يدفع الناس من لحمهم الحيّ أثمان التسويات والصفقات، وضريبة الخلافات والاحتراب، ثم يأتي من يسألهم عن ثورتهم، عن مشروعها وفكرتها وقائدها وعناصرها ومصادر تمويلها، وكأنّه يحقّ لهؤلاء المجرمين واللصوص أن يوزعوا شهادات في الوطنية وحسن السلوك.
لا مناط من استكمال الثورة لأنّها حقّ التاريخ في ذممنا جميعًا. ولا مناط من هدم هذا الهكيل، المتورّم، فوق رؤوسهم جميعًا، إنطلاقًا من المصارف التي شكّلت الحاضنة الأعمق لنفوذهم وسطوتهم، وصولاً إلى النظام السياسي برمته، الذي شرّع استمرايتهم وأطلق يدهم في استباحة كلّ شيء.