الإمام محمد مهدي شمس الدين: “ولاية الأمّة” في مواجهة “ولاية الفقيه”

مدة القراءة 8 د


رحلة الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين الفكرية والسياسية والفقهية، كانت طويلة، وشائكة، وحافلة بالتغيّرات والتطوّرات والاجتهادات حتى اللحظة الأخيرة من حياته على سرير المرض في باريس. وقد ختمها بسلسلة وصايا صدرت عن “دار النهار” للنشر في بيروت تحت عنوان “وصايا الإمام محمد مهدي شمس الدين”، وقد سجّلها له ابنه المهندس والوزير السابق ابراهيم شمس الدين. ومن ثَمّ طُبعت لاحقاً مرّات عدّة بعد رحيله في العاشر من كانون الثاني 2001.

واللافت في تلك الوصايا أنه وجهّها أولاً لعموم الشيعة الإمامية في كلّ وطن من أوطانهم، وفي كلّ مجتمع من مجتمعاتهم. ومن ثَمّ توجّه بشكل خاص إلى المسلمين الشيعة في لبنان وإلى المسلمين والمسيحيين جميعاً. وقد تضمّنت تلك الوصايا خلاصة ما توصّل إليه خلال تجربته وتأمّلاته.

فمن أبرز ما أوصى به الشيعة الإمامية في كل مكان “أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم، وأن لا يميّزوا أنفسهم بأيّ تميّز خاص، وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميّزهم عن غيرهم” لأن المبدأ الأساسي هو وحدة الأمة، “التي تلازم وحدة المصلحة”. وأوصاهم كذلك “بألاّ ينجرّوا وألاّ يندفعوا وراء كلّ دعوةٍ تريد أن تميّزهم تحت أيّ ستار من العناوين، من قبيل إنصافهم ورفع الظلامة عنهم، ومن قبيل كونهم أقلية من الأقليات لها حقوق غير تلك الحقوق التي تتمتع بها سائر الأقليات”.

وأما وصيته إلى المسلمين الشيعة في لبنان وكذلك إلى كلّ اللبنانيين، فهي “أن يرفعوا من العمل السياسي، من الفكر السياسي، مشروع إلغاء الطائفية السياسية، لا بمعنى أنّه يحرّم البحث فيه والسعي إليه. ولكن هو من المهمات المستقبلية البعيدة، وقد يحتاج إلى عشرات السنين لينضج بحسب نضج تطوّر الاجتماع اللبناني وتطوّرات المحيط العربي بلبنان”.

إقرأ أيضاً: “دولة الحاج” حسين العويني: من “هيك هيك” إلى “دار العجزة”

وعلى هذا، أوصى بالثبات والالتزام بنظام الطائفية السياسية، مع إصلاحه، وقال إنّ صيغة الطائف هي صيغة نموذجية في هذا الشأن، لكن “نحتاج إلى جهد وطني مخلص للنظر في العيوب والثغرات الموجودة في نظامنا الطائفي”، وكذلك “إلى تبصّر عميق في اكتشاف هذه الأخطاء، وإصلاحها، وإبقاء الباب مفتوحاً لتدارك كلّ خطأ”.

كما تضمّنت الوصايا فقرة خاصة حول الدور المسيحي في لبنان والوطن العربي، موصياً المسلمين اللبنانيين، والعرب جميعاً، بالحرص الكامل التام على ضرورة وجود المسيحيين في لبنان، وعلى فعاليته، وأن يشعروا “بالانتماء الكامل والرضى الكامل، وعلى عدم أيّ شعور بالإحباط، أو بالحرمان، أو بالنقص، أو بالانتقاص، أو بالخوف على المستقبل”.

ومحمد مهدي شمس الدين ولد في النجف الأشرف عام 1936. والده العلامة الشيخ عبد الكريم شمس الدين، من كبار علماء لبنان. بقي مع والده حتى بلغ الثانية عشرة من عمره، ثم عاد أبوه إلى لبنان وتركه في النجف لتحصيل العلوم الدينية. تلقّى علومه الأوّلية في النحو والصرف ومبادئ الفقه على يد والده. ودرس مقدّمات الأصول والبلاغة والمنطق على بعض الفضلاء من مدرّسي الحوزة العلمية في ذلك الحين. أتمّ دراسته على مستوى الخارج في الفقه على يد المرجع الديني الإمام محسن الحكيم، وفي الفقه والأصول على الإمام السيد أبو القاسم الخوئي والسيد محمد الحسيني الروحاني.

شارك الشيخ شمس الدين مع غيره من علماء العراق ولبنان في تأسيس الحركة الإسلامية في العراق. وكان أحد أهم الكتب التي نشرها في العام 1954 كتاب” نظام الحكم والإدارة في الإسلام”، وهو جاء رداً على كتاب “الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرزاق والذي أثار ضجة كبيرة عند صدوره في أوائل القرن العشرين في مصر، وكان ينفي وجود نظام حكم في الإسلام.

عاد الى لبنان في العام 1969، حيث أسّس “الجمعية الخيرية الثقافية”، التي بدأت نشاطاتها في منطقة الدكوانة شرق بيروت، وانتقلت لاحقاً الى منطقة الشياح. وكان يعطي دروس التفسير والفقه والمفاهيم العامة، ويصدر الكتب والدراسات. فردّ على كتاب صادق جلال العظم الذي نشر بعد حرب 1967 تحت عنوان “نقد الفكر الديني” من خلال سلسلة مقالات نشرها في ملحق جريدة “النهار”. ثم عاد وأصدرها في كتاب بعنوان: “مطارحات في الفكر المادّي والفكر الديني”. وأشرف أيضاً على تأسيس الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين، الذي كان من أنشط المجموعات الاسلامية في تلك الفترة.

في العام 1975، انضم إلى “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” للعمل مع الإمام موسى الصدر بعد إلحاح شديد من الأخير لأن الشيخ شمس الدين كان متحفّظاً في البداية. ثم انتخب نائباً للرئيس في العام نفسه. وبعد اختطاف الامام الصدر في ليبيا، تصدّى الشيخ شمس الدين لمسؤولية المجلس مباشرة. وكان يشرف أيضاً على “حركة المحرومين” من موقعه الديني والثقافي.

بعد تأسيس حزب الله في لبنان، بدأت تبرز بعض الإشكالات بين مواقف الشيخ شمس الدين وقيادة الحزب وكذلك القيادة الإيرانية سواء بسبب المواقف السياسية أو الفكرية، وبسبب حرصه على استقلالية القرار الشيعي اللبناني عن القرار الإيراني

من العام 1975 حتى رحيله في العام 2000 نشط الإمام شمس الدين في كافة الاتجاهات السياسية والفكرية والدينية. واجه تحديات كبيرة ولا سيما إبّان الحرب الاهلية وانتصار الثورة الإسلامية في ايران والاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. وكان عليه التوفيق بين رؤيته الفكرية وموقعه الديني والواقع السياسي والأمني الصعب. وكان همّه حماية الوحدة الداخلية، والحفاظ على الجنوب، ودعم المقاومة، وتأكيد استقلالية قرار “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”، وحماية الوحدة الإسلامية والوطنية، ومنع التقسيم. ولذلك عمد الشيخ شمس الدين إلى تعزيز التعاون مع “دار الفتوى” ومع مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد، ودار طائفة الموحدين الدروز والشيخ محمد أبو شقرا. وتمّ تأسيس “القمة الإسلامية” من أجل مواكبة التطوّرات وتوحيد الموقف الاسلامي. ولاحقاً تأسّست “القمة الاسلامية – المسيحية” وتمّ تشكيل أمانة خاصة لها وتأسّست “اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي – المسيحي.

ونمّى الراحل مؤسسات “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى” وخصوصاً مستشفى الزهراء. وأسّس الجامعة الإسلامية في منطقة خلدة. وتابع نشاطاته في إطار “الجمعية الخيرية الثقافية” التي كانت تشرف على عدد من المؤسسات الدينية والتربوية والثقافية، ومنها المعهد الفني الإسلامي” و”حوزة الشهيد الأول” و”مدرسة الضحى” ومسجد الإمام الصادق في بيروت و”مبرّة السيدة زينب” في بلدة جبشيت في جنوب لبنان وإحدى المبرات في البقاع.

وبعد تأسيس حزب الله في لبنان، بدأت تبرز بعض الإشكالات بين مواقف الشيخ شمس الدين وقيادة الحزب وكذلك القيادة الإيرانية سواء بسبب المواقف السياسية أو الفكرية، وبسبب حرصه على استقلالية القرار الشيعي اللبناني عن القرار الإيراني. واشتدت الخلافات خلال الصراع بين حركة أمل وحزب الله، وتعرّض الشيخ لضغوط قوية وأُطلقت النار على مكاتبه. لكن هذه الإشكالات انتهت لاحقاً من خلال التوافق بين الحزب والحركة، كما جرى انتخابه لرئاسة المجلس الشيعي الاعلى بعد مضي المهلة المحدّدة لرئاسة الإمام موسى الصدر وغيابه.

خلال تلك المرحلة الصعبة، كان الشيخ شمس الدين يطوّر آراءه الفكرية والسياسية والفقهية، وقد أصدر عشرات الكتب والدراسات المهمّة. في البداية، طرح مشروع الديمقراطية العددية في لبنان كبديل عن النظام الطائفي. لكن لاحقاً تخلّى عن هذا المشروع حرصاً على اتفاق الطائف ولحماية الدور المسيحي. كما أنه طوّر رؤيته للحكم الإسلامي، وأطلق مشروع “ولاية الأمة على نفسها” في مقابل “ولاية الفقيه”. وقام بدور مهمّ في معالجة التوترات المذهبية في لبنان والمنطقة وخصوصاً مصالحة المعارضة الشيعية في البحرين والسعودية مع سلطات البلدين.

وفي العام 1993، وبعد انعقاد مؤتمر مدريد ومشاركة بعض الأنظمة العربية في المفاوضات مع العدو الصهيوني طرح مشروعاً متكاملاً تحت عنوان: “خيارات الأمة وضرورات الأنظمة”، وذلك للتوفيق بين ضرورة المقاومة، مع الحقّ بالتفاوض. كما أطلق مشروع المصالحة التاريخية بين التيارات الإسلامية والقومية والليبرالية والذي مهّد لإطلاق “المؤتمر القومي الإسلامي”.

ومن أهم الاجتهادات والآراء الفقهية التي تبنّاها:

أولاً: في خصوص الولاية العامة، كان الإمام شمس الدين يرى أنه في غياب الإمام المعصوم، فإن الأمر يعود للأمة، وذلك خلافاً لنظرية ولاية الفقيه التي قال بها الإمام الخميني.

ثانياً: كان يستنكر الرأي القائل بأن أتباع المذاهب الأخرى يجوز العدوان عليهم وشتمهم، حيث إنّ هذا يتناقض تناقضاً أساسياً مع مبدأ الأخوّة بين المسلمين وكون المسلمين أمّة واحدة من جهة، ويتناقض مع مبدأ تحريم الظلم والعدوان من جهة أخرى.

ثالثاً: كان يرى جواز تولّي المرأة المناصب العليا في الدولة الإسلامية.

لقد ترك الامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين ثروة فكرية وفقهية ضخمة، وأسّس لرؤية فقهية جديدة. وحتى الذين كانوا يختلفون معه فكرياً أو سياسياً أو فقهياً كانوا يقرّون بأعلميته وفقاهته وقوّة المنطق عنده والدور الكبير الذي لعبه على صعيد لبنان والعالم العربي والإسلامي.

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…