منذ سنوات وحتى الآن، تتعامل السعودية مع لبنان استنادًا إلى لامبالاة صارت تتخذ طابع الاستدامة في العلاقة بين البلدين. أصل التباعد يعود إلى معضلتين واضحتين:
الأولى لبنانية تتعلّق برجاحة كفة حزب الله على سواها في حسابات المعادلة الوطنية، معطوفة على جملة من الكبوات في الأداء السياسي لسعد الحريري، بدأت بربط النزاع مع حزب الله توازيًا مع عاصفة الحزم، وتفاقمت عبر تسوية أُديرت بطريقة غير متكافئة ولا متوازنة مع جبران باسيل وميشال عون، وهو أحد أشرس المنظّرين لكسر السنية السياسية والتحالف بين الأقليات.
والثانية تتعلّق بالسعودية نفسها، التي باتت تنظر إلى لبنان من خلفية الربح والخسارة على هامش التوازنات القائمة في المنطقة، إضافة إلى نفاد الجانب العاطفي الذي طالما حكم العلاقة التاريخية بين البلدين، بل وتحوّل على نحوٍ استثنائي إلى مدماك أساسي يُحدّد المنهجية السياسية لا العكس.
إقرأ أيضاً: من يعيد السُنّة إلى المعادلة الوطنية؟
خطورة هذا التحوّل تكمن في إرساء حالة من الضياع واللايقين. حيث إنّ الإشارة السعودية المفقودة باتت تترك آثارها السلبية والعميقة على مستويات غير مسبوقة في الساحة السنية، في ظلّ كباش محموم وحامي الوطيس بين مجموعات تتناحر جميعها على خطب ودّ المملكة وكسب ثقتها وحضنها وشرعيتها السياسية تحت سقف الوكالات الحصرية أو العلاقات المفتوحة. لكنّ ذلك لا يُقابل إلا بمزيد من عدم الحسم، ما يُعطي إشارة واضحة عن سلوكين لا ثالث لهما: إما أنه استمرار لسياسة سحب اليد، أو رغبة بترك الأمور حتى تنضج، ليبنى لاحقًا على الشيء مقتضاه.
آخر حالات التشتت تمثّلت بدخول بهاء الحريري بشكل نافر ومباغت إلى التجاذب الداخلي من بوابة الزعامة السنية، وقد ترك هذا التطوّر ندوبًا وكدمات لا يُستهان بها، وهي مرشّحة للتفاعل والتطوّر على وقع الارتطام العنيف بين الشقيقين المتنازعين على أرض محروقة. هذا في ظلّ صمت سعودي، لم يخرقه إلا زيارة ضبابية قام بها السفير السعودي إلى منزل سعد الحريري، وهي زيارة سستبقى محطّ جدل وأخذ وردّ ما لم تتبعها إشارات واضحة تحدّد خارطة الطريق وتحسم القرار النهائي إزاء كلّ الملفات العالقة، وعلى رأسها قطعًا ماهية الدور السعودي في لبنان، وهوية الشخص أو الأشخاص الذين سيحملون الراية في المرحلة المقبلة.
الواضح، حتّى الآن، أن ثمّة غضباً سعودياً انفجر بوجه سعد الحريري منذ سنوات، ثم وصل إلى قمته لحظة الاستقالة الشهيرة من الرياض. لكنّ الأمور لم تجد سبيلها لحلول واضحة، بل تعقّدت أكثر وأكثر، وأخذت العلاقة تهبط في مؤشر انحداري لتلامس أقلّ مستوياتها، لا سيما عقب عودة سعد الحريري إلى التسليم بالمعادلة الداخلية المجنونة التي يمسك طرفها الأول حزب الله وطرفها الآخر جبران باسيل.
اللافت، حتى الآن، أن استقالة الحريري التي أعقبت ثورة 17 تشرين لم تؤسس لمسار مغاير في طبيعة العلاقة المتوترة بين الطرفين، رغم المواقف الحادة التي اتخذها الأخير في غير مناسبة، وهي مواقف شكّلت النَّعْية الرسمية للتسوية الرئاسية، وشرّعت القطيعة الكاملة مع رئيس الجمهورية وصهره، ثم أخذت تتدحرج في مسار اشتباكي حول مختلف القضايا المطروحة، انطلاقًا من الخطاب والممارسة السياسية، وصولاً إلى كلّ التفاصيل التي تتعلّق بالعهد والحكومة وما ينتج عنهما.
لتفكيك هذه المعضلة من وجهة نظر السعوديين، يجب الارتكاز إلى تفنيد موقف سعد الحريري من حزب الله حصرًا، وهو الموقف المهادن تحت عنوان الحؤول دون توتر سني – شيعي. لكنّ الحقيقة المجرّدة تكمن في مكان آخر، أي أن كسر التسوية والاشتباك مع التيار الوطني الحر لن ينعكس على إجراء مماثل بوجه حزب الله، على اعتبار أنه الجهة الوحيدة القادرة على الفتنة المسلّحة من وجهة نظر سعد الحريري، وبالتالي لا بدّ من المحافظة على العلاقة الطرية والودودة بانتظار اللحظة السياسية التي تسمح بعودة الأمور الى ما كانت عليه في السراي. لكن هذا التوجّه زاد المشكلة مع السعودية تعقيدًا، إذ لا يمكن حلّها باشتباك علني وصاخب مع القشور، في مقابل باب مفتوح على مصراعيه في العلاقة والتنسيق مع حزب الله تحت الطاولة وفوقها.
لكن حسم هذا المعطى، رغم أهميته ومركزيته، لن يُغيّر الكثير في حالة التفسّخ لدى الكثرة الكاثرة من جمهور رفيق الحريري، الذي بات يرى في وريثه عنوانًا لقلّة الحيلة وانعدام حسن التقدير. وهنا تمامًا تحضر مشكلة سعد الحريري الأبرز، إذ إنها مع جمهوره وناسه وأقرب المقرّبين إليه، وهي مشكلة معقّدة ومتشعّبة ولا امكانية لحلّها أو لجم تداعياتها، على اعتبار أن ما كُسر قد كُسر، بل تفتّت وتشظّى على نحوٍ فظيع وغير مسبوق.
في ظلّ الوضع الراهن، تصعب الإجابة عن الخيارات المقبولة والمتاحة، والأرجح أن الساحة السنية ستشهد مزيدًا من الاستنزاف والترهّل في مخاضها العسير ضمن الجغرافيا اللبنانية وعلى مساحة المنطقة برمّتها
ليست السعودية إذًا أمام خيارات سهلة للتعاطي مع هذه الوقائع، لا سيما وأن قدرتها على الحسم باتت محفوفة بالكثير من المطبّات والمنزلقات، فسحب اليد من سعد الحريري لا بدّ أن يتزامن مع انبثاق بديل قادر على إعادة وصل ما انقطع. وهذا بحدّ ذاته يُشكّل تحدّيًا كبيرًا وهائلاً، خصوصًا في ظلّ الثورة الوليدة، وفي موازاة التغيّر السياسي والاجتماعي الذي طاول الساحة السنية على نحوٍ مكثّف. فالمزاج العام بات في مرحلة متقدّمة من التشتّت واللّاثقة تجاه سعد الحريري وشقيقه وعائلته، وتجاه غالبية الشخصيات التي تروّج لنفسها وتقدّم أوراق اعتمادها باعتبارها بديلاً مقبولاً لمواكبة المرحلة.
في ظلّ الوضع الراهن، تصعب الإجابة عن الخيارات المقبولة والمتاحة، والأرجح أن الساحة السنية ستشهد مزيدًا من الاستنزاف والترهّل في مخاضها العسير ضمن الجغرافيا اللبنانية وعلى مساحة المنطقة برمّتها، لكن ذلك لا يجب أن يحول دون عودة السعودية بشكل فوري إلى ممارسة دورها الطبيعي للمساعدة في إنتاج تصوّر واضح ومقبول للمرحلة المقبلة، يبدأ من تدارك النزيف الاجتماعي ومواكبة الأوضاع الاقتصادية. ويصل إلى إعادة تصويب البوصلة السياسية استنادًا إلى دور السنة الطليعي في المعادلة الوطنية، وذلك عبر منفذ واحد وحيد عنوانه الدولة المدنية، مع ما يعنيه هذا من شروع طبيعي وطرح شجاع يبدأ بالمباشرة في تعديل العقد الاجتماعي وصولاً إلى إعادة صياغته على النحو الذي يضمن حقوق المواطن لا مكتسبات الطوائف والمذاهب.
ليكن النقاش حول المرحلة المقبلة مفتوحًا وواضحًا ومقدمة لبلورة السنية المشتهاة، ومعها المعادلة الوطنية التي لا بدّ أن تترفّع عن الحساسيات المزمنة وعن الدوران في متاهات الدوائر المغلقة، ولا بد أيضًا أن تلامس رغبة اللبنانيين الجامعة والجامحة ببناء دولة سويّة تواكب عطشهم وتطلّعهم المستدام نحو مستقبل أفضل.