في مثل هذا اليوم من العام 1989، اغتيل “المفدي” حسب التعبير البيروتي . وبقي المسلمون لسنوات طوال يقصدون الشيخ حسن خالد حين يلفظون كلمة المفتي متجاهلين من هو في سدّة المسؤولية الوطنيّة بعده. إلى أن انتُخب مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان الذي أعاد أسس استقرار المؤسسة الدينية إلى دار الإفتاء وأنهى الاشتباكات السياسية الموروثة محقّقاً الهدوء السياسي لدار المسلمين.
هذا في عقول المسلمين أما في قلوبهم فبعد 31 سنة من اغتيال المفتي الشهيد حسن خالد، ما زال المسلمون يتذكرون تلك القامة بعمامتها البيضاء وجُبّتها البيضاء وقلبها الشجاع الأبيض، تقف في قلب بيروت الأبيّة، بيروت المحروسة، تقف في “الملعب البلدي” تخطب في الناس وتؤمُّها في صلاة العيد، مطلقة فيها الصمود والوحدة والسلام والأمان، والإيمان أنّ هذا الوطن هو لكلّ أبنائه والكلّ فيه سواسية.
بعد 31 سنة ما زال ذاك الخطاب صالحاً، فالمفتي الشيخ عبد اللطيف دريان ليس مضطراً أن ينشغل بتحضير خطبة عيد الفطر، ونحن على بعد أيام من نهاية شهر رمضان. كلّ ما عليه هو أن يطلب من أحد العاملين في مكتبه أن يخرج من الأرشيف خطبة الشهيد المفتي حسن خالد في الملعب البلدي عام 1983 طالباً إعادة طباعتها لإلقائها كاملة دون تعديل، زيادة أو حذفاً في صلاة العيد.
إقرأ أيضاً: المفتي الشيخ حسن خالد (2/1): الشخصية والرسالة والخير العام
في الذكرى الـ31 لاغتيال المفتي حسن خالد، وبعد كلّ هذه السنوات، ما زالت خطبة المفتي الشهيد في ملعب بيروت البلدي صالحةً بكامل تفاصيلها اليوم، حيث لم يتغيّر شيء في الواقع والوقائع، سوى بعض الأسماء والشهود.
“إذا كانت محبة وطننا لبنان تفرض علينا واجبات نؤدّيها له عن رضى وسخاء، فإن لنا عليه وفيه حقوقاً نحرص عليها حرص القوي الواثق الذي لا يرضى أن يعيش فيه مع غيره إلا على قدم سواء”. هذا مقطع من خطبة العيد التي ألقاها المفتي الشهيد، وهو يختصر كلّ القضية وكلّ الأزمة التي يتخبّط بها لبنان نتيجة لقهر يعيشه مكوّن أساس في الوطن ألا وهم السُنّة، في ظلّ سعي باقي الشركاء لإلغاء دورهم وشراكتهم ووجودهم.
يليق بالمفتي دريان أن يمسك خطبة سلفه المفتي الشهيد ويلقيها كوثيقة يتمسّك بها المسلمون للعيش والتعايش في هذا الوطن الذي لا يمكنه العيش على قاعدة قهر طرف فيه مهما كان هذا الطرف صغيراً أو كبيراً، حاملاً للسلاح أو واقعاً تحت هيمنة السلاح. فلبنان لا يحيا دون السُنّة.
لقد كانت خطبة المفتي الشهيد حسن خالد في الملعب البلدي قبل ما يزيد عن الثلاثين سنة، خطبة مفصلية تاريخية وضعت النقاط على حروف سلطة تائهة باغية، فأعادت الأمور إلى نصابها. وهذا ما يجب أن تكون عليه خطبة عيد الفطر عام 2020، إذ ما زالت السلطة تائهة وباغية ليس على السُنّة وحالة القهر التي يعيشونها بفعل الاقصاء، بل على كلّ المواطنين بكلّ مذاهبهم وطوائفهم وهم يتسوّلون ودائعهم، قلقين على لقمة عيشهم وأمنهم واستقرارهم.
لقد قال المفتي الشهيد في خطبته: “يخطئ كثيراً من يظنّ إن قضية تحرير الوطن، وهي قضية المصير، يمكن أن تتحقّق بعيداً عن قضية تحرير المواطن الذي يمثّل ركيزته الأساسية .لا سبيل إلى تحرير وطن لا يحتضن مواطناً حراً، ولا كرامة لوطن يفتقد فيه المواطن عزته وكرامته”.
أليس هذا الكلام الذي يجب أن يوجّه إلى حزب الله في تناوله معضلة قهر الآخر تحت شعار تحرير الأرض ومقاومة الاحتلال.
قال المفتي الشهيد: “إنّ حقّنا في وطننا ليس ملكاً يتصرّف به البعض، كما يهوى ويشتهي. وإنّ شريعة لبنان الحضاري هي شريعة الدين والعقل لا شريعة الهوى والقتل. وهي شريعة اللقاء والحوار لا شريعة الخصام والدمار. وإن في الوطن – على صغر مساحته – متّسعاً لجميع أبنائه على أساس من العدالة وصون الحريات، وإن أية فئة من الفئات لا يمكنها أن تبني لبنان على صورتها، سواء كانت حزبية أم طائفية أم عنصرية. لأن لبنان لا يمكن أن يكون إلا على صورة من التجانس البديع بين جميع طوائفه، تظلّله الكرامة وتحفظه قواعد العدالة والمساواة”.
أليس هذا الكلام هو التشخيص الدقيق لقهر طائفة كبرى واستبعادها من المعادلة الوطنية مع ما تحمله هذه الممارسات من أذى على الوطن ومصيره.
أليس ما قاله المفتي الشهيد هو جوهر اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب وأوقف العد ويحاول البعض اليوم النيل منه والعودة بالبلاد والعباد الى الوراء؟
فقد قال المفتي الشهيد: “لا نريد أن تكبر بيروت ليصغر لبنان، ولبنان الكبير الذي نتمسك به سيبقى كبيراً بمواطنه الكبير في ذاته، والكبير بكرامته. إنّ رؤية اللبنانيين حول مسألتهم الوطنية ما تزال مهزوزة لم يتكامل فيها الصفاء. إذ ما زال فيهم المشرق والمغرب حتى أصبح المواطن بين تشريق هذا وتغريب ذاك، كالعربة المصدّعة الجوانب .إن تحرير الوطن ينبغي بالضرورة أن توازيه حركة تحرير المواطن، وذلك يعني وجوب العمل على تحرير بعض المواطنين أولاً من عقدة الخوف التي تحوّلت إلى عقدة للسيطرة، وتحرير البعض الآخر من عقدة الغبن التي تحولت فيهم إلى عقدة للاستسلام”.
ألم يحدّد المفتي الشهيد في هذه الكلمات الثوابت التي يمكن أن يجتمع عليها اللبنانيون في سعيهم لبناء وطنهم ووقف الانهيار؟
قال المفتي الشهيد: “إنّ تحرير المجتمع اللبناني لا يقوم إلا على توازن جديد يقوم ويتكامل بين الطاقات الإسلامية والمسيحية لأنّ الطاقات المسيحية المتآلفة والقيادات المسيحية الموحّدة، والمؤسسات المسيحية المتكاملة، تبقى ناقصة التحرّر، ضعيفة العطاء، إذا بقيت الطاقات الإسلامية اللبنانية متنافرة، والقيادات الإسلامية متفرّقة، والمؤسسات الإسلامية مستضعفة، وعكس الأمر صحيح في هذا السياق. ولذلك، فإنّ وحدة المسيحيين اللبنانيين أصبحت مسؤولية سياسية إسلامية، ووحدة المسلمين اللبنانيين مسؤولية سياسية مسيحية، ووحدة المسلمين والمسيحيين في وطن واحد أصبحت مسؤولية لبنانية مشتركة”.
أليس ما قاله المفتي الشهيد هو جوهر اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب وأوقف العدّ ويحاول البعض اليوم النيل منه والعودة بالبلاد والعباد الى الوراء؟
لقد ختم المفتي الشهيد خطبنه التاريخية بالقول: “إنّ دعوتنا لوحدة المسلمين ليست إلا دعوة لوحدة اللبنانيين، فنحن الذين رفضنا ونرفض أيّ شكل من أشكال التقسيم في لبنان. لا يسعنا إلا أن نعمل لوحدتنا التي نرى فيها وحدة للبنان وقوة له وعزاً لكيانه”.
أليست هذه الكلمات وصفة سحرية للفتنة السُنيّة الشيعية النائمة التي يحاول الملعونون إيقاظها؟
ماذا لو حمل المفتي دريان هذه الخطبة وألقاها في عيد الفطر. حينها فقط سنحتفل بالعيد ونكبّر ونهلل مع المكبرين: “نصر عبده وأعزّ جُنده وهزم الأحزاب وحده”.
وهو أي “المفتي دريان” قدّها وقدود …
خطبة المفتي الشهيد حسن خالد في مسجد الإمام علي بن أبي طالب – بيروت، عام 1986 م.
[VIDEO]