يعرف رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، أن شعبية التيار الذي ورثه، بنيت على أحلام مشروعة، تحوّلت في اللعبة السياسية إلى أوهام. رهان رئيس الجمهورية ميشال عون على باسيل، وإيمانه العميق به، كان لأن باسيل يجيد لعبة الأوهام والقفز فوق حبالها. لا بدّ لهذه اللعبة، أن تقترن بطابع قدسي.
وجبران، المشيّع لسياسة التعطيل لتعزيز صلاحيات المسيحيين وحقوقهم، ولو كان الثمن انهيار البلد ومؤسساته، يجيد استخدام الشعارات المسيحية في يومياته، فيلبس ثوب الرهبان، بورعهم وخشوعهم، ويدّعي المعاناة مع مصاعب الحياة كحالة النسّاك والحبساء، فيه فقط ينطبق القول: “اسمعوا أقواله ولا تفعلوا أفعاله.”
إقرأ أيضاً: في تفنيد “أكاذيب” باسيل: أنت “سلطة” ولستَ “معارضة”
يحوّل باسيل مصاعب الحياة إلى مصاعب سياسية. يحاول الخروج من معاناته مع بيئته وجمهوره الذي يجد أحلامه تتبدّد بما استحال أوهاماً. هي ذي معاناته الأساسية، والتي عمل على مجانبتها بتحويلها إلى معاناة أخرى، وهي معاناته مع القوى السياسية التي يَسِمها بالفساد. لم تكن إطلالته المطوّلة، إلا لغاية واحدة، رفع معنويات جمهوره، جمهور يعاني منذ سنوات من ازدواجية، أطبقت على الحالة الشعبية للتيار، وانفجرت في 17 تشرين وبعدها. يريد لعودته أن تكون بمعايير تقدّس منهاجه السياسي، فيصنّف القوى بين فاسدة، وأخرى شريفة. الشرف الذي ادّعاه لم يسمح لنفسه حتى بمنحه لحزب الله، حليفه الأساسي، فحمّله مسؤولية تركه وحيداً في مواجهة منظومة الفساد.
لا مشكلة بالفساد، عندما يصب في خدمة أحلامه وطموحاته، فيبادر إلى عين التينة، أو زغرتا أو معراب، يفتح يديه لتيمور جنبلاط، ويوسع صدره لسعد الحريري. أما في لحظة التضارب، فيعود إلى نغمة “الفساد”، وهي بذاتها التي أنتجت عهد عمّه، وولّته على مؤسسات وقضاء، باتت كلّها ملك يديه.
بدا في مؤتمره الصحافي الأخير كالراهب الزاهد بمتع الحياة، وهو الزاهد بالسلطة ومواقعها، ناسفاً وجوده على رأس ثلاث من أهم الوزارات، ممسكاً بالحكومات التي شارك فيها، وعلى رأس اثنتين من الوزارات – المغاور التي لم يستطع أحد ولوجها. فيشبّه نفسه بأنّه عائد حديثاً من المنفى، ويريد أن يطلق حركة معارضة تصحيحية. هكذا دوماً هي الصورة الكاذبة التي يقدّمها عن نفسه.
أراد مواجهة منظومة الفساد، تلك التي انتخبت عمّه رئيساً للجمهورية، ونفسها التي يريدها أن تنتخبه للموقع عينه. قسمها إلى مرحلتين، 15 سنة في المنفى، اتهم الآخرين بالانقلاب علي وعلى نهجه خلالها، بينما هو الذي انقلب على نفسه. و15 سنة أخرى في السلطة، تخلّلتها مسيرته العريضة في مكافحة الفساد، فلم يجد عهد عمّه أيّ فاسد في خلال تولي الوزير نقولا تويني وزارة مكافحة الفساد. في كلّ مرّة يطّل يفضح نفسه وشركاءه، فيشير إلى انتقادات يتعرّض لها في العلن، ومحاولات للحلحلة والمراسلة بالسرّ، وهذا ما شب عليه وسيشيب، منذ ما قبل ورقة التفاهم، إلى ما بعد تفاهم معراب، ومن الآن، فصاعداً.
تؤكد المعلومات أن وعيد باسيل وتهديداته، لن تجد لها أيّ أفق. خسارته لأكثر من معركة سياسية، تدفعه لتحويل الأنظار إلى المظلومية التي يعانيها، أمام بيئته وجمهوره، فيلجأ إلى رزمة قوانين ويركّز فيها على كشف الحسابات والأملاك الخاصة، في مسار ابتزازي جديد يفتحه مع خصومه، لعلّه يرتدّ عليه إيجابياً على الصعيد الشعبي، تماماً كما ناشد ثوار 17 تشرين مستغرباً صمتهم حول كلّ الملفات بما فيها الفيول المغشوش، واصفاً إياهم بأنهم ظلموه وانقلبوا عليه.
عندما قرّر باسيل أن يخرج إلى جمهوره، كان قد نسّق خطوته مع حزب الله.
تؤكد معلومات “أساس” أنّ حزب الله طلب منه تحسين علاقته مع كلّ القوى السياسية، وهذه ترجمت في أكثر من محطّة تهدوية. حزب الله لا يريد افتعال أيّ مشكل سياسي حالياً، وهو حتماً لا يسير برزمة القوانين والاقتراحات التي لوّح بها باسيل، وتأخذ طابع الانتقام السياسي والتعويم الشعبي بعراضات في مجلس النواب وعلى المنابر. لا يحتمل الحزب أيّ مغامرة من هذا النوع، ولا يمكن العودة إلى ما قبل لقاء بعبدا بين وليد جنبلاط وميشال عون. كذلك لا يمكن للحزب أن يسمح باستمرار باسيل بمعاركه الوهمية التي يخوضها على الساحة المسيحية، وستكون ارتداداتها سلبية على حزب الله وتحالفاته بالدرجة الأولى.
لن يذهب باسيل في معركته حتى النهاية، على الرغم من تأكيده أنه سيستمر فيها. يعرف أن هناك ملفات كثيرة جاهزة ليتمّ تقديمها ضدّه كإخبارات متعدّدة في وزارتي الاتصالات والطاقة، وفي ملفّ النفط
تؤكد معلومات “أساس” أنّ كلّ ما فعله باسيل كان في معرض الاستعراض، لأنّه وجد اليأس والوهن يتسرّب إلى نفوس مناصريه ومؤيديه، وهذه لا يمكن السماح بها، ولا بد من شدّ العصب للحدّ من التراجع الشعبي.
لن يذهب باسيل في معركته حتى النهاية، على الرغم من تأكيده أنه سيستمر فيها. يعرف أن هناك ملفات كثيرة جاهزة ليتمّ تقديمها ضدّه كإخبارات متعدّدة في وزارتي الاتصالات والطاقة، وفي ملفّ النفط. هو يعتبر أنّ القضاء بيده، وقادر على تكرار تجارب سابقة في وضع هذه الإخبارات في الأدراج. اليوم لن يسمح بتكرار هذه اللعبة التي ستكون على حافة خطرة بالنسبة إلى حزب الله، من ملف المعابر غير الشرعية إلى المرفأ والمطار، وحتّى عند نقاشه بالأموال الموهوبة والمنهوبة، فحزب الله لن يسمح بتناولها وأمينه العام كان قد قال سابقاً إنّه يتلقّى أمواله وسلاحه ومساعداته من إيران، وكثر حضّروا ملفات حول أموال موهوبة ومنهوبة بين العامين 1988 و1990. اللعبة إعلامية ليست أكثر، ولا تتخطّى الحرب النفسية وعملية الابتزاز المستمرة.
ابتزاز كان واضحاً عندماً قال باسيل إنّ الكثير من الأفرقاء يراسلونه في السرّ، ويهاجمونه في العلن، وكأنّه يترك باباً مشقوقاً لمثل هذه التسويات، لا سيما أنه سابقاً توجّه إلى الحريري بالقول: “ذهبت بعيداً ولكنك ستعود إنما الطريق ستكون أطول”. وهذه الجملة سيدعّمها لاحقاً بالحفاظ على التوازن والنسيج والصيغة، لأنّ الواقع أقوى من التغيير. وأكبر عناوينه الابتزازية، كان المزج بين نقطتين، عند حديثه عن التهريب إلى سوريا، حيث حمّل المسؤولية إلى قوى الأمر الواقع، مقابل انتقاد حزب الله على تركه “وحيداً في المعركة”. وكأنّه يريد من الحزب أن يعطيه بقدر ما يغطّيه. الخلاصة، إما أن يسايره اللبنانيون فيما يريد، أو سيعود إلى نغمة تقسيمية قديمة، يجدّدها بتسميتها “لا مركزية مالية وإدارية موسعة”.