تسير السلطة بعكس تطلعات صندوق النقد الدولي. إشارة سلبية تلو الإشارة ترسلها في كلّ الاتجاهات وكأنها تريد عن قصد، عرقلة مساعدة الصندوق. رئاسة الجمهورية ردّت التشكيلات القضائية قبل أسابيع، وقبل أيام طلبت الرئاسة أيضاً من المجلس الدستوري الطعن بقانون “آلية تعيينات الفئة الأولى”، فيما التعيينات الأخيرة لـ”الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء” التي يضعها المجتمع الدولي في سلّم أولويات الإصلاحات، شكّلت فضيحة كبرى بعد تأجيلها وتجريدها من الصلاحيات.
إقرأ أيضاً: المجتمع المدني يراسل “صندوق النقد” لمحاصرة الفساد… أبو سليمان: خطة الكهرباء يقررها الممولون!!
بعد عشرات اللقاءات بين وفد الحكومة وصندوق النقد الدولي، خرجت انطباعات دولية عبر الصحف، شبّهت فريق الحكومة المفاوض بـ”بائعي السجاد”، أو “بائعي الفجل” كما نقول في المحكية اللبنانية. فهناك دبلوماسي أوروبي نقلت عنه صحيفة “ذا غارديان” السبت الفائت قوله بالحرف: “كنّا نتوسّل إليهم أن يتصرّفوا مثل الدولة الطبيعية، وهم يتصرّفون وكأنّهم يبيعوننا السجاد”، دبلوماسي آخر لم تكشف الصحيفة نفسها اسمه قال: “لبنان بات دولة فاشلة”.
مطالب إصلاحية لصندوق النقد ما زالت عالقة في أدراج السراي، لأنّها تصطدم برغبات الأحزاب الحاكمة، خصوصاً بتطلّعات راعي حكومة حسان دياب وحاميها المتخبّط: “حزب الله”. تارة يدعو الحزب إلى التوجّه شرقاً، وتارة أخرى يُطلق “الجهاد الزراعي”. جهاد الزراعة أضحوكة بين أبناء بيئة الحزب الحاضنة قبل خصومه، وأطلق العنان للنكات والـ”قفشات” على مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن بعيداً عن التخبّط اللبناني وزواريبه السياسية، فللصندوق مطالب محدّدة يضعها في عهدة الحكومة ويطالب بتنفيذها، جزء منها معروف ويشبه الوصفة الموحدة لأي دولة تطرق بابه للمساعدة، فيما الجزء الآخر رشحَ خلال اللقاءات، ويمكن تلخيصه في 5 عناوين هي عبارة عن “مقبّلات” أو مدخل إلى عملية الإصلاح الشامل، وهي على الشكل الآتي:
1. تحرير سعر صرف الليرة مقابل الدولار
يضع صندوق نقد الدولي هذا الشرط ضمن أولوياته، لكنّه يتفهّم عواقبه في المقابل، ولهذا لا يصرّ عليه كثيراً. هو مهتم بشكل زائد بـ”توحيد أسعار صرف الدولار” التي باتت بسبب الفوضى، أكثر من 4 أسعار مؤخراً (التسعيرة الرسمية، تسعيرة شركات التحويل، تسعيرة المصارف، تسعيرة دعم السلع الرئيسية… إلخ) فالتنوّع يصيب الاقتصاد الوطني بمقتل، ولهذا يسعى مصرف لبنان منذ مدة إلى توحيد هذه الأسعار وحصرها بـ3900 ليرة.
الصندوق سيعود إلى مطلب تحرير سعر الصرف حينما تسمح الظروف، لكن يُرجّح أن يحصل ذلك تدريجياً مع إطلاق آليات هيكلة وجدولة الدين العام والقطاع المصرفي، وذلك إفساحاً في المجال أمام المواطنين لامتصاص الصدمة واستيعاب الخسائر. فلا يُعقل أن يصبح سعر جميع السلع أو الرسوم والخدمات محرّراً دفعة واحدة، كما يستحيل أن يتمكّن المواطنون الذين يحصلون على رواتبهم بالليرة اللبنانية من تلبية احتياجاتهم من مأكل مشرب ومحروقات وخدمات… على سعر 9000 ليرة للدولار الواحد، ولهذا يعطي الصندوق مهلة لتحرير سعر الصرف قد تصل إلى العام 2026.
2. رفع الدعم عن الاستيراد والسلع والخدمات
لأنّ الدعم يشجّع على التهريب، ولأنّه “نفقات بلا جدوى” تضرب روح التنافس التجاري، فإنّ الصندوق يطالب برفع الدعم عن السلع كلّها، ويفضّل دعم الناس بالأموال على دعم السلع. حتّى دعم الكهرباء الذي يكلّف خزينة الدولة نحو ملياري دولار في السنة أمر مطلوب بقوّة أن يتوقف، لأنّ إصابة الناس بقدرتها الشرائية أفضل من دعم المحروقات أو القمح والسلة الغذائية وتهريبها إلى خارج الحدود واستنزاف احتياطات العملة الصعبة في المصرف المركزي.
للصندوق مطالب محدّدة يضعها في عهدة الحكومة ويطالب بتنفيذها، جزء منها معروف ويشبه الوصفة الموحدة لأي دولة تطرق بابه للمساعدة، فيما الجزء الآخر رشحَ خلال اللقاءات
ناهيك عن أنّ الدعم يشكل فُرصة لتلاعب التجار بفواتير السلع واستغلال الدعم لتهريب الدولارات إلى الخارج، من خلال شراء سلع وهمية بتسعيرة 3900 ليرة. تجار كُثُر قادرون على تضخيم فواتير استيرادهم والتلاعب بها بالاتفاق مع الشركات الخارجية التي يتعاملون معها من أجل تحويل الأموال إلى الخارج. وهذا الامر ليس جديداً. فثمة شكوك كثيرة تحوم حول شركات أدوية قد سبق لها أن لجأت إلى هذه الطريقة.
قد يكون لا مفرّ من دعم بعض السلع، لكن على خطة الدعم أن تكون فائقة الذكاء ومُحكمة، تستهدف “تاجر التجزئة الأخير” الذي يقع قبل المستهلك مباشرة، وليس المستوردين وذلك من أجل تخفيض إمكانات التهريب إلى حدودها الدنيا.
3. تقليص القطاع العام وإعادة هيكلته
يمكن القول إن تكلفة القطاع العام قد انخفضت إلى نحو النصف وأكثر. فالكتلة النقدية للرواتب والأجور والتعويضات تراجعت بعد ارتفاع سعر صرف الدولار. لكن ذلك ليس حلاً، لأن الحكومة ستواجه مستقبلاً معضلتين:
الأولى أنّ فائض الموطفين في الإدارة كبير فعلاً، إذ يُصنف لبنان ثالث دولة عربية من حيث عدد موظفي القطاع العام، وهو بحاجة إلى صرف ما يُقدّر بثلثهم (100 ألف موظف من أصل 300 ألف) أضف إلى ذلك 96 مؤسسة عامة اتُفق على إقفالها في الحكومات المتعاقبة لكن قرار البتّ بها مرمي في الأدراج.
أما الثانية، فإذا لم “يُنظف” القطاع العام الآن، فإنّ العدد الفائض سيبدأ مستقبلاً بالمطالبة بزيادة على الرواتب. وعليه، فإنّ الوقت داهم ولا بدّ من إنجاز الأمر سريعاً.
في الجهة المقابلة، يرى البعض أنّ هذه الخطوة يصعب إنجازها على يد هذه السلطة، لأنّ الجسم الإداري تربطه بها علاقة زبائنية، أضف أنّ اتخاذ خطوات كهذه في ظلّ الظروف الحالية سيتسبّب بنسب فقر إضافية. لعلّ هذه الخطوة تأتي في مرحلة متقدّمة بعد “تأسيس قطاع خاص منتج” قادر على استيعاب جزء منهم، وقد يتطلّب التنفيذ ما لا يقل عن 10 أو 15 سنة من العمل الشفاف حتى نصل إلى قطاع عام “يتناسب مع إنتاجية الإدارة اللبنانية”. لكن إلى حينه فإنّ الدولة بيدها مروحة خيارات مختلفة تستهدف تخفيف النفقات من دون المسّ بالموظفين ورواتبهم، وتتأخر في تنفيذها.
4. خصخصة الكهرباء
لا يصرّ الصندوق على خصخصة قطاع الكهرباء فحسب، وإنما خصخصة القطاعات ذات الطابع الإنتاجي كلها مثل الاتصالات والمياه والإنترنت والطيران والريجي. الخصخصة ليست مطلباً بمعناها الضيق، وإنما هي محاولة انفتاح على المنافسة مع القطاع الخاصة. الهدف من ذلك محاولة كسر الاحتكارات، لأننا بحاجة إلى “منافسة خاصة” وليس إلى “احتكارات خاصة”. لكن بلوغ هذا الأمر يتطلّب قدراً عالياً من الشفافية و”صحوة ضمير” لدى جماعات السلطة الذين تسيطر عليهم ذهنية الزبائنية والمحاصصة، على حساب الخدمات الجيدة. وكذلك إلى جهاز قضائي شفاف قادر على إدارة العملية بموضوعية وبعيداً عن التدخلات السياسية. فالمتمكّنون القادرون على شراء الأسهم هم إما سياسيون فاسدون أو أشخاص مدعومون من السياسيين أو محسوبون عليهم، ولنا في شركتي الخليوية أمثلة شاخصة، حيث بدأتا شركتين خاصتين وانتهتا محاصرتين من “تخمة” موالية للسلطة الحاكمة.
إذاً، فالخصخصة في ظلّ نظام فاسد تكاد تكون مستحيلة، خصوصاً إذا انعدمت الشفافية واستقلالية القضاء وعُيّنت هيئات ناظمة للقطاعات، لتكون فارغة بلا صلاحيات.
5. إعادة هيكلة القطاع المالي
على الرغم من إدراج الحكومة في خطتها بند إعادة هيكلة القطاع المالي، إلا أنّ “خطر المحسوبيات والزبائنية” بقي حاضراً بقوة من خلال “بدعة الرخص الخمس” التي خرجت بها الحكومة. ومع تشقّق الخطة الحكومية، أعادت المصارف الاعتبار لطرحها وأخذت الحيّز الأهم من الأفضلية، مستبعدة حتى اللحظة خيار هيكلتها.
خطة المصارف تتمحور حول إعادة أموال المودعين بهدوء بالليرة اللبنانية وبأقل من سعر الصرف الحقيقي. في هذه الحالة تكون المصارف قد ردّت أموال المودعين من حسابهم، وعادت إلى الـstatus quo الذي كان قائماً من قبل، من دون أيّ عملية هيكلة للقطاع. لكن من الواضح أنّ صندوق النقد لن يوافق على هذا الأمر، وسيطالب بحلّ سريع، ولا يُستبعد أن يُضغط على المصارف المتعثرة من أجل إشهار إفلاسها أو إعادة هيكلتها سريعاً.
إذا لم “يُنظف” القطاع العام الآن، فإنّ العدد الفائض سيبدأ مستقبلاً بالمطالبة بزيادة على الرواتب
لكن إعادة الهيكلة أمر مستحيل في ظلّ غياب خطة واضحة تخصّ أولاً إعادة جدولة الدين العام وهيكلته، وثانياً، إجراء تقييم جديّ تقوم به المصارف ذاتياً، لمعرفة “صحة وسلامة” ديون القطاع الخاص لديها، والتي بات تصنيفها شبه متعثر نتيجة استفحال الأزمة الاقتصادية.
هاتان الخطوتان ستدفعان صوب جعل صورة القطاع المصرفي أكثر وضوحاً، وستساعدان بشكل كبير في معرفة ما هو المطلوب من المصارف لجهة تحديد خسائرها والاختيار بين تأمين رأس المال المطلوب لإنقاذها أو الاستسلام للدمج. من دون هذه الخطوة لا إمكانية لفرز المصارف بين متعافٍ ومتعثّر، وهذا الأمر ينسحب على امكانية معرفة مصرف لبنان لحجم خسائره أيضاً.
تلك كانت النقاط الخمس الأبرز لما نحن مطالبون به من أجل الحصول على مساعدة الصندوق. خطوات لم نرَ أحداً من السلطة أو المصارف انكبّ على تنفيذ فقرة منها…
فعن أيّ إصلاح يتحدثون؟
ملاحظة: شارك في توضيح الأمور التقنية في هذا المقال، الخبير الاقتصادي الدكتور باتريك مارديني والخبير في المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي…