قد لا يكون المؤتمر الصحافي الذي عقده السيد مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، جديداً بما جاء فيه من مواقف تتعلّق برؤيته للتعامل مع أزمة السلاح المتفلّت والفصائل غير المنضبطة ومؤسسة الحشد الشعبي، باستثناء أنّه ابتعد عمّا سبق أن لمّح إليه في السنوات الماضية من ضرورة إعادة النظر في مؤسسة الحشد الشعبي ودمجها في القوات المسلّحة. مع أنّ الكلام الأخير، الذي تضمّن الدعوة إلى “تطهير أو تنظيف” الحشد من العناصر الفاسدة، يحمل في طيّاته مساراً يؤدّي إلى هذا الهدف مستقبلاً.
جاء كلام الصدر استكمالاً لسلسلة مواقف أطلقها عشيّة انتهاء الانتخابات البرلمانية، التي جرت في 10/10/2021، وكشفت نتائجها الأوّلية عن تقدّم واضح للكتلة الصدرية وضعها في مقدّم الكتل الفائزة عن المكوّن الشيعي، وضَمِن لها أن تكون منافسةً أو صاحبة استحقاق في تسمية رئيس الوزراء المقبل من داخل هذا المكوّن. هذا ما لم يعمد المتضرّرون من فوزها إلى عقد تحالف أوسع يمكّنهم من تشكيل الكتلة الكبرى، الأمر الذي يقطع الطريق على الحسم داخل هذا المكوّن، ويدفع إلى انتظار الجهود التي سيبذلها كلّ طرف بالذهاب إلى الفضاء الوطني والتحالف مع الكتل الوازنة داخل المكوّنين السنّي والكردي. بما يسمح لكلّ طرف الحصول على أغلبية برلمانية من 165 نائباً أو أكثر، تجيز له رسم المشهد في الرئاسات الثلاث ضمن هرميّة الدولة العراقية.
مواقف الصدر وضعته مباشرة في مواجهة الفصائل المسلحة “المقاومة” التي بدأت تشعر بأنّها دخلت دائرة الحصار
أمام هذه الحقائق، وعلى الرغم من إمكانية تعديل توزيع المقاعد داخل المكوّن الشيعي بحيث يرتفع عدد نواب الإطار التنسيقي الذي يضمّ قوى الإسلام السياسي بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، فإنّ الصدر يبدو واثقاً من استمرار تيّاره في تصدّر المشهد الانتخابي، والإمساك بلعبة التسميات، والقدرة على نسج التحالفات التي تضمن له هذا الهدف. هو الذي بدأ التخطيط له ورسم مفرداته منذ عام 2017 وصولاً إلى عمليات تحرير المناطق العراقية من سيطرة تنظيم داعش. وهي ثقة سمحت له بوضع شروط على الأطراف الأخرى المنافِسة من أجل “المشاركة” في تشكيل الحكومة المقبلة والحصول على حصّة لها في توزيع الحقائب والمواقع المتقدّمة في الإدارة.
ليس منطقياً القول إنّ الصدر في مواقفه الأخيرة لم يدرك ردّات الفعل التي قد تصدر عن الفصائل المسلّحة “المقاومة” المتّهمة بأنّها تمثّل السلاح غير المنضبط أو المتفلّت. خاصة أنّه استهدفها بشكل مباشر وصريح. إلا أنّه ذهب إلى هذا الموقف الذي يمكن وصفه بالتصعيدي ضدّها، لِما تمثّله من ظاهرة نمت على هامش مؤسسة الحشد الشعبي مستفيدةً من عنوانه من دون الالتزام بالموجبات القانونية التي شرّعها البرلمان لتنظيم هذا الصنف المستحدث داخل المؤسسة العسكرية العراقية التي تخضع لإمرة القائد العام للقوات المسلحة، فيما ترفض هذه الفصائل الامتثال لأوامره وسلطاته.
لكن يبدو أنّ الصدر التقط الإشارات التي أرسلتها إيران، الراعية لهذه الفصائل “الولائية”، في الموقف الذي أعلنته أمام رئيس وزراء تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي في خلال زيارته الأولى لطهران في آب 2020، والذي تضمّن دعوة إلى ضرورة مساعدة الحكومة العراقية على استعادة هيبة الدولة ومحاربة السلاح المتفلّت وحصر السلاح في مؤسسات الدولة العسكرية الرسمية، ومن ضمنها الحشد الشعبي. ومن هنا يمكن فهم كلام الصدر المباشر من دون تسمية واضحة، حين اعتبر التدخلات الخارجية من دول الجوار في هذا السياق مرفوضة وغير مسموحة، وأنّ العلاقات بين العراق وهذه الدول لا تمرّ عبر جماعات خارج الدولة، بل بالطرق الدبلوماسية وتحت سقف القانون ومبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
وبموازاة ما أحدثته مواقف الصدر من انقسام عمودي بينه وبين قوى الإطار التنسيقي، لِما تحمله من طموحات سياسية وقيادية تجعل هذه القوى تتخوّف من محاولة مصادرتها وتحويلها إلى شريك هامشي في العملية السياسية يكتفي بما يقدّمه له الزعيم الصدري من حصّة أو دور في الدولة ومؤسساتها. وهو تخوّف قد يعرقل الجهود الساعية إلى البحث عن مخرج للأزمة السياسية والانسداد الذي وصلت إليه الأوضاع، فيدفع هذه القوى إلى الانكفاء والتمسّك بمطالبها، خاصة في خيار الحكومة التوافقية، على حساب حكومة أغلبية ينتجها الفضاء الوطني بتحالفات تضمّ كلّ المكوّنات العراقية. إلا أنّ هذه القوى ذهبت إلى خيار الصمت والابتعاد عن السجال معه بانتظار اتّضاح الصورة وإعلان النتائج النهائية للانتخابات بعد انتهاء المؤسسة القضائية من النظر في الطعون، والتي قد تنتج عنها متغيّرات في توزيع الأوزان. ويُتوقّع إعلانها في العاشر من الشهر المقبل كانون الأول، أي بعد أيام من خروج الدخان الأبيض أو الأسود من اجتماعات فيينا بين إيران ودول مجموعة 4+1 وواشنطن، التي قد تساهم في رسم مسارات المنطقة بمجملها، خاصة أنّ وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان أكّد أنّ التجاوب الأميركي في رفع العقوبات عن إيران سيساعد في تسهيل التعاون الإيراني في حلّ المسائل والقضايا الإقليمية.
إقرأ أيضاً: الكاظمي والخطأ الاستراتيجي
غير أنّ مواقف الصدر وضعته مباشرة في مواجهة الفصائل المسلحة “المقاومة” التي بدأت تشعر بأنّها دخلت دائرة الحصار، والتي عزّزت الانقسام الحادّ بين الطرفين، يبدو أنّها قد تنتج هذه المرّة انقساماً من نوع آخر داخل الفريق المقابل للصدر، أي بين هذه الفصائل التي ذهبت إلى التصعيد من خلال المطالبة بإلغاء الانتخابات وفتح باب التطوّع في “فصائل المقاومة” ردّاً على موقف الصدر، وبين الإطار التنسيقي الذي يسعى إلى حصر الصراع في الدائرة السياسية، والاستمرار في دعم الحراك القانوني المعترض على الانتخابات والداعي إلى تصحيح نتائجها، والبحث عن تسويات تساعد على إنقاذ العملية السياسية ولا تجرّ البلاد إلى مواجهات في الشارع. وقد تعزّز ذلك من خلال تعبيره عن المخاوف من الدعوة إلى إلغاء نتائج الانتخابات وإعادتها من جديد وتحذيره من أنّ هذا قد يؤدّي إلى الانهيار الشامل.