92% من مجموعات المجتمع المدني تعتقد أنّ نزع سلاح حزب الله هو خطوة ضروريّة. لكنّهم يختلفون على التوقيت والآليّة، وعلى المصطلحات المستعملة. وأقلّ من ثلث المجموعات فقط يطالب صراحة بتطبيق القرارات الدوليّة، ولا سيّما القرارين 1559 و1701، على الرغم من تداخل الآراء واختلافاتها الدقيقة.
هذا ما خلصت إليه دراسة ميدانيّة لشريحة نموذجيّة تضمّ 63 مجموعة ناشطة من أصل 420 مجموعة منخرطة في الحراك الشعبيّ ما بين كانون الأول 2020 وآذار 2021، عن الموقف المتفاوت إزاء الحزب وسلاحه. وقد صدرت هذه الدراسة الاستكشافيّة عن الشركة الاستشاريّة في الشأن العام “النبض The Pulse” في بيروت، برعاية مؤسسة كونراد أديناور (Konrad-Adenauer-Stiftung)، وتحمل عنوان “حالة المجتمع المدني في لبنان” (The State Of Civil Society In Lebanon).
ثمّة إجماعاً على ضرورة صياغة الاستراتيجيّة الدفاعيّة بهدف احتواء السلاح خارج إطار الدولة، أو قبل اتّخاذ أيّ قرار بشأنه
بحسب الدراسة، تنقسم المجموعات الناشطة بحسب طبيعة عملها (منظمات غير حكومية NGO، مجموعات وأحزاب سياسيّة ناشئة، منظمات نسويّة، مجموعات ضغط، وشخصيّات عامّة)، واختصاصها المهنيّ (فنانون، عسكريّون متقاعدون)، ومستواها الدراسيّ (طلّاب وباحثون أكاديميّون)، وتوزّعها الجغرافيّ في بيروت والمناطق.
وقد برزت أربعة اتجاهات أساسيّة في الموقف من الميليشيات وسلاحها خارج إطار الدولة، ورؤية الحراك الشعبيّ لكيفيّة علاج المسألة:
1- 30% من المجموعات تؤيّد تجريد حزب الله فوراً من سلاحه، وفق القرار الدوليّ رقم 1559، وفرض الدولة سيطرتها على كامل التراب الوطنيّ وفق القرار الدوليّ رقم 1701، وتطبيق الاستراتيجيّة الدفاعيّة بحسب ما ينصّ عليه الدستور والقوانين ومتطلّبات العيش المشترك. وهذه المجموعات ترفض وجود دويلات داخل الدولة، وتعتقد أنّ موقفها يضمن عدم استعمال السلاح في الداخل.
2- 42% من المجموعات ترى حظر الميليشيات احتراماً لمبدأ سيادة الدولة. وتؤيّد وضع السلاح تحت سيطرة الدولة وحدها، في إطار الاستراتيجيّة الدفاعيّة، وأن يكون قرار الحرب والسلم بيد الدولة حصراً. وبالمقابل، تطالب بدمج المقاتلين المدرّبين في صفوف الجيش، وإطلاق برنامج تأهيل يضمن الولاء للدولة وليس لأيّ تنظيم سياسيّ.
3- 20% من المجموعات تجد ضروريّاً العثور على حلّ للمقاومة المشروعة، ودمج سلاحها داخل القوات المسلّحة. وهذا الرأي لا يعتبر أنّ الحزب ينتهك السيادة اللبنانيّة بحمله السلاح خارج إطار الدولة، بل المقاومة بنظر هذه المجموعات هي حقّ وواجب، وينبغي أن تُتيح المجال لكلّ فئات المجتمع كي تنخرط في صفوفها. بالمقابل، ترى هذه المجموعات ضرورة صياغة الاستراتيجيّة الدفاعيّة كي يكون سلاح الحزب تحت سيطرة الدولة، ويكون مقاتلوه جزءاً من الجيش، وأنّ على أيّ حكومة جديدة مراعاة الاعتبارات الإقليميّة بدقّة عندما تتناول هذا الموضوع.
4- 8% من المجموعات تجد أنّ قضيّة السلاح مرتبطة بالعامل الإقليميّ. لذا يجب على أيّ قرار بشأن سلاح الحزب أن يراعي التوافق بين الأطراف المعنيّة في إطار الاستراتيجيّة الدفاعيّة. وتؤيّد هذه المجموعات سلاح الحزب بهدف ردع العدوّ الإسرائيليّ بالنظر إلى عدم قدرة الدولة على تولّي مهمّة الدفاع. وعليه، فإنّ الأمر الواقع يُضفي المشروعيّة على سلاح الحزب، ولا يجب نزعه قبل الاتفاق الإقليميّ، وقبل صياغة الاستراتيجيّة الدفاعيّة. وينبغي عدم رفع الشعار المناهض لهذا السلاح خلال الانتفاضة الشعبيّة.
يُستخلص من آراء تلك الشريحة النموذجيّة لمجموعات المجتمع المدنيّ، أنّ ثمّة إجماعاً على ضرورة صياغة الاستراتيجيّة الدفاعيّة بهدف احتواء السلاح خارج إطار الدولة، أو قبل اتّخاذ أيّ قرار بشأنه.
لرهان الأكبر هو أن ينجح حزب الله بشدّ عصب منظومة الأحزاب المتحالفة معه أو أن يتمكّن المجتمع المدنيّ من تحقيق ولو بعض الأهداف المرسومة للمرحلة المقبلة، فإمّا صمود النظام على ما هو عليه أو تخلخله وتهافته
فشل محاولة تحييد السلاح
حاولت ثورة 17 تشرين تحييد الحزب ابتداءً حفاظاً على مكوّناتها المختلفة، التي تضمّ كلّ الطيف السياسيّ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، على الرغم من أنّ شعارها الأساسيّ هو معاداة كلّ الأحزاب وكلّ المشاركين في الكارثة الوطنيّة دونما استثناء. لكن مع تخوين الحزب لها، واتّهام أطراف فيها بالتخابر مع جهات أجنبيّة، واندراجها في مشروع مضادّ للحزب ولدوره في لبنان والمنطقة، بدأت تظهر تدريجيّاً مواقف أكثر وضوحاً وجرأة، وهو ما زاد من تشتّت مجموعات الثورة، وتبعثر جهودها الميدانيّة، ثمّ انحسارها في الشوارع.
وبغضّ النظر عن التطوّرات التي تطرأ باستمرار على هيكليّة المجموعات، من تكتّل وانشقاق، ومن اصطفاف وانتكاس، فإنّ المعركة الانتخابيّة القادمة سيكون لها عنوان رئيسيّ هو الصراع بين الأحزاب بمُجملها وعلى اختلاف توجّهاتها، ومجموعات المجتمع المدنيّ على كثرة مفارقاتها. والرهان الأكبر هو أن ينجح حزب الله بشدّ عصب منظومة الأحزاب المتحالفة معه أو أن يتمكّن المجتمع المدنيّ من تحقيق ولو بعض الأهداف المرسومة للمرحلة المقبلة، فإمّا صمود النظام على ما هو عليه أو تخلخله وتهافته.
واليوم باتت الانتخابات النيابية هي البديل المنتظر من ثورة في الشارع اختفت آثارها وخفتت أصواتها منذ أشهر طويلة. فليس في لبنان الآن معالم تمرّد مدنيّ على المنظومة الحاكمة، على الرغم من توافر كلّ موجبات الثورة الشاملة. لا تكفي الشكوى كي تقوم ثورة. لا بدّ من أمل بإمكانيّة التغيير. الحراك الشعبيّ الفوضويّ لا يمكن أن يقلب الأوضاع إلا إذا تحوّل إلى ثورة عنيفة. والعنف في لبنان مؤدّاه حرب أهليّة، غير مضمونة النتائج، بل هي مستحيلة. في ظلال هذه المعادلات المعقّدة، بات التعويل أولويّاً على التغيير في صناديق الاقتراع. لكنّ المشكلة تبرز حتى في هذا الخيار الديموقراطيّ السلميّ. الثوّار المنقسمون سابقاً في الشارع، بين سلميّة التحرّكات والعنف الثوريّ أو ما بين بين، هم الآن منقسمون بشدّة أيضاً في تحالفاتهم الانتخابيّة، بين مَن يريد التحالف مع أحزاب المعارضة والنواب المستقيلين من البرلمان عقب انفجار 4 آب، وبين مَن هو متمسّك بالشعار الشهير “كلّهن يعني كلّهن”، أي الامتناع عن التحالف مع الأحزاب حتى المُعارِض منها. وامتدّ هذا الخلاف إلى المغتربين الذين تشكّلوا في مجموعتين أساسيّتين، هما: “كلّنا إرادة”، و”نحو الوطن”. فالأولى مع لوائح ائتلافيّة مع الأحزاب المعارضة، والثانية مبدئيّاً مع النقاء الثوريّ من دون أيّ لوثة حزبيّة أو سلطويّة، بانتظار لحظة الحسم أو الفراق.
إقرأ أيضاً: لماذا طلب شينكر من “المجتمع المدني” التواصل مع بايدن؟
إنّها ازدواجيّة أخرى، تُضاف إلى ازدواجيّة الاقتصاد (اقتصاد حرب ريعي إلى جانب اقتصاد ليبرالي خدماتي)، وازدواجيّة السياسة الخارجيّة (مواقف متناقضة داخل الحكومة وخارجها، موالية لمحاور إقليميّة متعادية)، وازدواجيّة القضاء (حرب صلاحيّات طاحنة بين اتّجاهات متعارضة). وهذا كلّه يجعل القطار متجمّداً في مكانه، فلا يتقدّم أبداً، لكنّه يتأخّر دائماً نحو الهاوية.