ثمّة ما هو أعقد وأعمق وأكبر من مجرّد محاولة اغتيال فاشلة تعرّض لها رئيس وزراء عراقيّ. المسألة تتعلّق بقرار استراتيجي إيراني يقضي بإحكام قبضة طهران السياسية والأمنيّة والعسكرية على ساحات نفوذها، وفي مقدّمها العراق، الذي يحظى بأولويّتها المطلقة، استناداً إلى مجموعة كبيرة من أسبابها الموجبة ومن العوامل المتشعّبة والمتداخلة.
ثمّة ما هو أعقد وأعمق وأكبر من مجرّد محاولة اغتيال فاشلة تعرّض لها رئيس وزراء عراقيّ. المسألة تتعلّق بقرار استراتيجي إيراني يقضي بإحكام قبضة طهران السياسية والأمنيّة والعسكرية على ساحات نفوذها، وفي مقدّمها العراق
قد يُشكّل هذا العنوان العريض مدخلاً طبيعياً لفهم محاولة اغتيال مصطفى الكاظمي، لكنّه سيظلّ ناقصاً ومبتوراً ما لم تتحدّد الملامح الكاملة والمؤسِّسة لهذا الاغتيال، والتي قد تبدأ بتعثّر مهمّة الوفد الإيراني المفاوض في جنيف، ولا تنتهي بنتائج الانتخابات العراقية التي صفعت وجه طهران، لكن ثمّة أيضاً ما هو أهمّ وأعمق: مصطفى الكاظمي نفسه.
الرجل الهادئ الرصين العارف والمدرِك، والذي ظهر بصورة المؤلف الموسيقي الذي يحترف “النوتة” الدقيقة، بعيداً من الصخب والضجيج. وقد بدا في مستهلّ مهمّته كَمَن يحفر الجبل بإبرة، لكنّ تصميمه وشخصيّته ورشاقته السياسية أتاحت له توسيع هامش حركته على نحو واضح وملحوظ، حيث استحال في فترة قصيرة جدّاً شخصاً فاعلاً ومؤثّراً وحاضراً في واجهة المشهد السياسي، ليس على مستوى العراق وحسب، بل على مستوى المنطقة والعالم، وهذا بحدّ ذاته ما يُقلق الإيرانيين ويدفعهم نحو تنحيته جانباً عبر شطبه من المعادلة بالاغتيال، وهي طريقتهم الفضلى في إزاحة الخصوم، وقد باتوا يملكون حقوقها الحصرية بلا منازع.
يخشى العقل الإيراني العميق أن يتحوّل مصطفى الكاظمي سريعاً إلى رفيق حريري آخر، ولا سيّما بعد سلسلة علاقاته العربية والدولية الدافئة، التي أخذت تتوسّع وتترسّخ شيئاً فشيئاً مع رؤساء وأمراء وملوك، حيث بات يحظى بثقة مترامية ومتراكمة، وبات الجميع ينظر إليه باعتباره رجلاً عاقلاً ومميّزاً وقادراً على لعب أدوار أساسية ومحورية في كلّ الملفّات المطروحة، وعلى رأسها قطعاً إعادة العراق إلى مكانته الطبيعية والطليعية، ليس انطلاقاً من فعّاليّته المستجدّة وحسب، بل استناداً إلى مكانته ودوره التاريخي كحجر زاوية في أيّ رؤية أو مشروع عربي.
يُضاف إلى هذا كلّه السياسات الداخلية التي انتهجها الكاظمي ولا يزال، والتي تقوم على إعلاء كلمة الدولة وإرساء حضورها وبسط سيطرتها وتفعيل مؤسساتها الرسمية والشرعية، في مقابل التغوّل الرهيب للميليشيات والأحزاب الملحَقة بإيران، وهذا ما لم يجرؤ على فعله كلّ رؤساء الحكومات السابقين منذ سقوط نظام صدّام حسين.
إنّ عمليّة الإصلاح، التي يقودها في حكومته، ناهيك عن خلفيّته كمثقف ومؤلّف وصحافي ومعارض وثائر ورئيس سابق للاستخبارات، أضافت إلى حضوره زخماً وتعاطفاً شعبيّاً عزّ نظيره، وقد جاء فشل الاغتيال ليضاعف هذا الزخم ويمنحه شرعيّته القصوى، كواحد من القادة الكبار الذين يُعوَّل عليهم في إدارة المرحلة الراهنة، وفي إخراج العراق من عنق الزجاجة، وتحييده عن مسار النزاعات وتبادل الرسائل.
صحيحٌ أنّ إيران لن تسكت، ولن تقف مكتوفة الأيدي، ولن تكتفي بمحاولة اغتيال فاشلة، بل ستعيد الكرّة مرّة ومرّتين ومرّات، وستكشّر عن أنيابها في مواجهات سياسية وأمنيّة حادّة وحامية، ولن تسمح بأيّ شكل من الأشكال أن يخرج العراق من قبضتها المُحكَمة حول رقبته، لكن الأصحّ أنّ الشعب العراقي أظهر وعياً كبيراً وقدرة هائلة على المواجهة والمقارعة والصمود، وهذا ما تجسّد بشكل واضح في نتائج الانتخابات الأخيرة، وهو لا شكّ سيشكّل رأس حربة لإخراج إيران من حيث دخلت إلى المنطقة عام 2003.
هكذا هي إيران. ما برعت يوماً إلا في التخريب والقتل وتمزيق المجتمعات. منذ ما قبل رفيق الحريري إلى ما بعد مصطفى الكاظمي. لقد ظلّ الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح يرقص فوق رؤوس الثعابين على مدى أربعين عاماً، استطاع خلالها أن ينجو من عشرات محاولات الاغتيال، وأن يتدبّر الحساسيّات والتناقضات اليمنيّة على نحو أتاح له الأريحيّة طوال فترة حكمه، لكنّه قُتِل فور انقلابه على الإيرانيين عبر دعوته الشهيرة إلى السلام وإلى فتح صفحة جديدة مع السعودية ومع التحالف العربي في اليمن.
إقرأ أيضاً: نجا الكاظمي من الاغتيال.. فهل تنجو منه الدولة العراقيّة؟!
مصطفى الكاظمي موسيقار عراقي عنيد. يعرف إيران. ويعرف إجرامها. ويعرف قدرتها على القتل والشطب وسفك الدماء. ولكنّه أراد أن يواجهها بعزف هادئ على وتر العراق العظيم، وأن يستهلّ مواجهته تلك بهذا المقطع البديع من نشيد بلاده: نستقي من الردى ولن نكون للعدى كالعبيد.