بعيداً عن رسم سيناريوهات مضخّمة، لم يكن الانتشار المرافق لمرور الموكب الأمني لرئيس المجلس التنفيذي لحزب الله السيد هاشم صفي الدين في قرى البقاع لافتتاح مشاريع إنمائية، مفاجئاً لأحد. غير أنّ الجديد في المشهد هو تسريب الصور، التي قرأ فيها البعض رسالة مقصودة من حزب الله. ولكن في أيّ اتّجاه؟
شريط وجود الحزب في القرى واضح. لذلك برزت بعض المخاوف من احتمال تصاعد وتيرة الحالة الأمنيّة هناك، خصوصاً بعد الكلام عن نصب حواجز عسكرية بعد حادثة الطيونة ـ عين الرمانة الشهر الماضي
ليست خافيةً على أحدٍ أهميّة جبل لبنان وقممه في الاستراتيجية العسكرية. منذ زمن الانتداب الفرنسي (1923 ـ 1943) انتشرت الغرف الفرنسية في الجرود الممتدّة من بشرّي إلى جزّين، مروراً بالباروك. يروي أهل الجرد، عائلاته وكباره وصغاره ورعاة ماشيته، حكايات وروايات عن معايشتهم للنقاط الأمنيّة والانتشار العسكري في قمم جبالهم وجرودهم. وبعد استقلال 1943، لم تكن هذه الجرود غريبة عن الجيش اللبناني، الذي لا يزال يمارس فيها مناوراته بالذخيرة الحيّة. في الحرب اللبنانية (1975 ـ 1990) تحوّلت هذه الغرف إلى مراكز لقوى الأمر الواقع من الأطراف المشاركة في الحرب، ولعلّ أبرزها كانت الغرفة الفرنسية في جبال صنّين، التي سقطت بيد الجيش السوري خلال حرب زحلة التي دارت بين نيسان 1981 وتمّوز من العام عينه. حينئذٍ أصبح السوريون قادرين على استهداف المنطقة الشرقية الممتدّة من المدفون بين جبيل والبترون إلى بيروت. وليست هذه الجرود غريبة عن السفيرة الأميركية، دوروثي شيا، التي تحضر شخصيّاً أحياناً مناورات الجيش اللبناني. وإذا كان دور هذه الغرف بالغ الأهمية عسكريّاً، فإنّها أيضاً ليست غريبة عن حزب الله، الذي يعرفها جيّداً.
في ما يعنينا اليوم في موضوع عيون السيمان، فإنّ الجبل واقع جغرافيّاً بين قضاءيْ كسروان وبعلبك، ولا “غرفة فرنسية” فيه تطلّ على السهل البقاعي. وأيّ كلام عن انتشار أمنيّ للحزب هناك ليس بجديد، بل الجديد، كما تشير مصادر متابعة لواقع المشهد هناك، هو تسريب الصور عن هذا الانتشار، ولو تمّ تبريره بأنّه لمواكبة صفي الدين في خلال افتتاحه بئراً في بلدة طاريا البقاعية.
لكن ما هي الرسالة من انتشار الصور؟
لا تعلّق المصادر العسكرية لـ”أساس” على خبر انتشار الحزب في المنطقة بالكثير، على اعتبار أنّه “أمر معلوم”، خصوصاً أنّه لم يتمدّد إلى قمم عيون السيمان نزولاً باتجاه البلدات الكسروانية. مع ذلك، انتشرت تساؤلات كثيرة مرتبطة بمخاوف من بعض أهل المنطقة من أيّ تمدّد عسكري للحزب فيها. ومَن يعرف جغرافية المنطقة جيّداً، يدرك وجود إمكانية جدّيّة لربط البلدات البقاعية بالبلدات الشيعية في كسروان، وصولاً إلى البلدات الشيعية في جبيل.
وشريط وجود الحزب في القرى واضح. لذلك برزت بعض المخاوف من احتمال تصاعد وتيرة الحالة الأمنيّة هناك، خصوصاً بعد الكلام عن نصب حواجز عسكرية بعد حادثة الطيونة ـ عين الرمانة الشهر الماضي، للتدقيق بهويّات كلّ عابر للمنطقة من حدث بعلبك باتّجاه دير الأحمر وبشرّي.
لا تعلّق المصادر العسكرية لـ”أساس” على خبر انتشار الحزب في المنطقة بالكثير، على اعتبار أنّه “أمر معلوم”، خصوصاً أنّه لم يتمدّد إلى قمم عيون السيمان نزولاً باتجاه البلدات الكسروانية
غير أنّ الواقع هناك لا يشير إلى أيّ تصعيد أمنيّ يريد الحزب القيام به، بل تعتبر مصادر مطّلعة أنّ الوضع في الجرود البقاعية والكسروانية عَكَس الخلافات الدائمة في جرود الضنّية وبشرّي بين رعاة الماشية والأهالي. في تلك المنطقة أرسى الحزب هدوءاً بين أهلها، باستثناء بعض الحوادث التي وقعت وتركت ندوباً من دون معالجة كافية.
قتيلان وتهدئة
في كانون الثاني 2013، قُتل شخصان من الطائفة الشيعية على يد شخص مسيحي في منطقة وطى الجوز في جرود كسروان. وعلى الرغم من أنّ الحادثة كانت بنت لحظتها، في سياق خلاف على أفضليّة مرور، إلا أنّها خلقت أجواء متوتّرة بين المسيحيين والشيعة. ودفع ذلك رئيس الجمهورية ميشال عون، الذي كان نائباً في حينه، إلى التواصل مع الأمين العامّ لحزب الله، السيد حسن نصرالله، لتفادي انجرار أبناء المنطقة إلى حربٍ طائفيةٍ، واتّفقا على خفض التوتّر، فدُفِنت الضحيتان، وسلّم الجاني نفسه إلى القضاء. والمفارقة أنّه طوال سنوات الحرب لم يشتبك المسيحيون والشيعة في كسروان وجبيل.
أمّا الكلام عن تخوّفٍ من دخول عناصر حزب الله إلى القرى المسيحية في كسروان، فهو كلام بعيد عن واقع الحال ومغاير أصلاً لمفاهيم توازن القوى في المنطقة. ويدرك الحزب، كما غيره، أنّ في اللحظة التي يقرّر فيها القفز فوق التفاهمات المحليّة، سيتحوّل كلّ أهل القرى، رجالاً ونساءً وأطفالاً، إلى مقاتلين. لذا تبقى هذه النظرية بعيدة عن الواقع، وفي الأساس لا رغبة لحزب الله بالدخول في أيّ مواجهة مماثلة.
إقرأ أيضاً: الحزب وقرداحي: إنّها معركة المنطقة.. وليس لبنان
إذاً ما هي الرسالة من نشر صور الانتشار الأمنيّ؟
يسأل المتابعون من أهل المنطقة: إذا لم تكن موجّهة إلى القرى المسيحية، كما أصبح معلوماً، ولا إلى سورية، وسط تطوّرات المشهد العراقي، فهل تكون وجهتها قائد الجيش اللبناني جوزيف عون العائد من رحلة أميركية غنيّة بمضمونها مع تسلّمه أكثر من مروحية عسكرية في حامات، أو المصالح الأميركية في حامات نفسها، والسفارة في عوكر؟