لم يعد هناك مجال لكسر هيمنة حزب الله على القرار السياسي للدولة اللبنانية، إلّا برفض المشاركة السياسيّة مع الحزب في الحكومات. وليحكمْ الحزب وحدَه، وليستعِن بمَن يشاء من حلفائه، سواء سليمان فرنجية الذي أظهر خبرة فريدة في اختيار الوزراء، أو جبران باسيل الذي يكاد تيّاره أن ينفجر من الداخل. وليُعِد حسّان دياب إلى السراي الحكومي، أو ليقبلْ مجدّداً بنجيب ميقاتي ما دام مدمناً على “تدوير الزوايا” حتّى في أشدّ الأزمات خطراً على لبنان.
فحزب الله، حين يدعو إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، لا يفعل ذلك حرصاً على الوحدة الوطنية، بل لتوريط كلّ القوى السياسيّة في تغطيته، وبشروطه هو.
تأكّد عقب تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أنّ أيّ حكومة في ظلّ موازين القوى الحاليّة هي حكومة من شأنها تعميق الانهيار لا الحدّ منه ومعالجة أسبابه
على سبيل المثال: نهار الخميس الماضي أبلغ رئيس الجمهورية ميشال عون المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي ديفيد بيزلي أنّ نسبة الفقر في لبنان بلغت، بحسب دراسة لـ”الإسكوا”، 74 في المئة من مجموع السكان، وفي حال أُخِذت في الاعتبار أبعاد أوسع في الداخل كالصحّة والتعليم والخدمات العامّة فإنّ نسبة الذين يعيشون في فقر متعدّد الأبعاد تصل إلى 82 في المئة من السكان. ولم يفُت الرئيس عون أن يتمنّى للبرنامج التوفيق في عمله توصّلاً إلى مساعدة 1.6 ملايين لبناني في أيّار المقبل.
خبر كهذا لا يُقرأ مرّة واحدة، فلا بدّ من التأكّد أنّ الرئيس هو مَن أبلغ هذه الأرقام المخيفة للمسؤول الدولي، وليس الأخير هو مَن أبلغ الرئيس بها، باعتبار أنّ هذه الأرقام هي إدانة واضحة للسلطة السياسيّة بدءاً من أعلى الهرم. لكنّ الرئيس عون لم يشأ تحميل أيٍّ كان المسؤوليّة عمّا وصلت إليه أوضاع البلد لأنّ أيّ إدانة من هذا النوع ستطوله حكماً لأنّه في الحكم منذ خمس سنوات، ولأنّ الأزمة وقعت في عهده، وإن لم يكن وحده المسؤول عن وقوعها فهو وحكومات ما بعد الأزمة فشلوا في الحدّ من تفاقمها إلى أن بلغت نسبة الفقر 82 في المئة من مجموع السكان.
لكنّ إدانة “السلطات اللبنانية” جاءت على لسان مقرّر الأمم المتحدة الخاصّ المعنيّ بالفقر المدقع وحقوق الإنسان أوليفييه دي شوتر الذي أورد، في تقرير عقب زيارةٍ للبنان استمرّت 12 يوماً، أنّ “ما قامت به هذه السلطات من تدمير للعملة الوطنية، وإدخال البلد في مأزق سياسي، وتعميق أوجه عدم المساواة التي طال أمدها، قد أغرق لبنان في فقر مدقع”.
الأزمة مصطنعة؟
ثمّة ما هو أخطر في تقرير المسؤول الأممي، إذ أشار إلى أنّ “الأزمة المصطنعة تدمّر حياة السكان، وتحكم على الكثيرين بفقر سيتوارثه الناس جيلاً بعد جيل”.
إنّ اعتبار دي شوتر أنّ الأزمة مصطنعة يعمّق الشبهة في كون السلطة الفعليّة، وعلى رأسها حزب الله، تدفع دفعاً باتّجاه مفاقمة الأزمة لفرض وقائع سياسيّة وديموغرافية واقتصادية جديدة. ولذلك ما عادت مسؤولية العهد تقتصر على عدم الحدّ من تدهور الأوضاع، بل هي تشمل المشاركة في اصطناع الأزمة ما دام العهد والحزب تعاضدا في تعطيل تشكيل الحكومة طوال 13 شهراً، فيما كان البلد بأمسّ الحاجة إلى حكومة تباشر إجراءات سريعة للحدّ من أهوال الانهيار.
حزب الله، حين يدعو إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، لا يفعل ذلك حرصاً على الوحدة الوطنية، بل لتوريط كلّ القوى السياسيّة في تغطيته وبشروطه هو
وللمفارقة أنّ أوساط التيار الوطني الحرّ كانت تتّهم الرئيس سعد الحريري بتعطيل تشكيل الحكومة لأنّه يريد فراغاً حكومياً في السنتين الأخيرتين من عمر العهد، فإذا بالحزب حليف التيار يعطّل الحكومة في سنة العهد الأخيرة في حين أنّ الرئيس عون كان قد وعد أن تكون سنة الإصلاحات.
وقد تأكّد عقب تشكيل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أنّ أيّ حكومة في ظلّ موازين القوى الحاليّة هي حكومة من شأنها تعميق الانهيار لا الحدّ منه ومعالجة أسبابه. لقد تجلّى ذلك بوضوح خلال حكومة الرئيس حسان دياب التي امتنعت عن دفع سندات اليوروبوندز، الأمر الذي عجّل في الانهيار، وكان بمنزلة إعلان فشل الدولة اللبنانية. وهو قرار سياسي بامتياز اتّخذه الحزب لوضع لبنان، تدريجاً، في مدار اقتصادي مختلف. ثمّ جاءت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي نتيجة اتفاق فرنسي – إيراني، لكن سرعان ما عطّلها ثنائي حزب الله وحركة أمل بدعوى تمنّع مجلس الوزراء عن “قبع” المحقّق العدلي في تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار. وهو ما أكّد مرّة جديدة تحكّم الحزب بقرار المؤسسات الدستورية ومساراتها، وإن لم يكن بالنفوذ المباشر فبالتعطيل، وذلك على الرغم من التبعات الهائلة لهذا التحكّم على حياة اللبنانيين.
ليس هذا وحسب، فقد أُتِي بوزير من عالم البرامج الترفيهية للتحدّث باسم الحكومة، فتسبّب بأزمة دبلوماسية غير مسبوقة مع دول الخليج العربي ستكون لها تبعات اقتصادية هائلة على لبنان. وبإزاء هذه الأزمة المستجدّة لم يَجد رئيس الحكومة سوى الطلب من الوزير إيّاه “تقدير المصلحة الوطنية”، أي تقديم استقالته بدايةً لمعالجة الأزمة. لكنّ الأمين العامّ لحزب الله تشكّك في قدرة ميقاتي على تقدير المصلحة الوطنية، فما كان من الوزير إلّا أن تمسّك بموقفه، ومن منبر عين التينة تحديداً، وكان المقصود إقحام الرئيس نبيه برّي في هذه الأزمة بعدما التزم الصمت حيالها.
ولم يكتفِ الوزير المفوّه بهذا الحدّ، إذ رهن استقالته بـ”ضمانات” يعطيه إيّاها البطريرك بشارة الراعي، وكأنّه ينتظر اعتذار المملكة العربية السعودية منه، أو أنّه استوحى “ضماناته” من الضمانات التي تشترطها إيران للعودة إلى الاتفاق النووي. ولم يختم حديثه قبل أن يستحضر معاني عزّة النفس على طريقة الرئيس إميل لحود.
إقرأ أيضاً: الحزب مرتبك.. فهل يُغيِّر سلوكه؟
وهذا كلّه فصل جديد من الكوميديا السوداء التي تدور أحداثها على الساحة اللبنانية، والأهمّ أنّه فصلٌ جديدٌ “من التقصير المذهل في المسؤولية على أعلى مستويات القيادة السياسية”، كما ورد في تقرير دي شوتر المذكور.
لكن هل يُتوقَّع أن تبالي هذه “القيادة السياسيّة” بالمآسي التي يرتّبها “تقاعسها عن مواجهة هذه الأزمة غير المسبوقة، ما دامت منفصلة عن واقع الذين يعيشون في فقر على الأرض”؟ ودائماً بحسب عبارات التقرير عينه.