أعمدة ميقاتي الثمانية: أين السقف؟

مدة القراءة 10 د

“كان البيت بدون سقف، وجدرانه المتداعية قد انهار بعضها، وبعضها ما زال واقفاً، ولكن وقفة العجوز المحدوب المتهالك، يحاول أن ينتصب بقامته فلا يستطيع.. فحجر قد برز من هنا، وآخر من هنالك، وثالث لو نكزته بعصا لهوى الى الأرض في الحال… أما يحزنك أن تفكر في هذا البيت والذين بنوه والذين سكنوه، كيف مضوا وتركوه… يحزنني أنّهم كانوا، ثمّ مضوا فكأنّهم لم يكونوا. كانوا عماراً فباتوا خراباً، كانوا شيئاً فأصبحوا لا شيء، ولولا هذه الحجارة الكئيبة تذكّرنا بهم لَما ذكرناهم”.

(ميخائيل نعيمة)

 

في كلمته أمام المجلس الاقتصادي والاجتماعي، بدا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي حالماً جدّاً حينما تحدّث عن خطّة عمل حكومته، التي بدت وكأنّها خارطة الطريق لحكومة في إحدى الجمهوريّات الأوروبيّة، حيث السيادة للدستور والقانون وحدهما، لا حكومة هَرِمَت في مهدها.

أطلق الرئيس ميقاتي حزمة وعود لا سند لها. فجميع الخطط التي تحدّث عنها تحتاج إلى اجتماعات مكثّفة لمجلس الوزراء لإقرارها، وكلمة السرّ في لمّ شمل الحكومة ليست لديه، ولا لدى الرئيس عون، إنّما هناك في الضاحية

حكومة معطّلة في دولة تسيطر الدويلة على قرارها، وتَكْثُر الدول الموازية في كلّ مناحي حياتها. حكومة في بلد ينهار بسرعة قياسية، يقف أمامها أعتى خبراء الاقتصاد مذهولين وحائرين وعاجزين عن استيعاب هول الانهيار وسرعته، على الرغم من إغراق الدولة ومؤسساتها في طوفان من عشرات الخطط والأفكار الإنقاذيّة، لكنّها ليست سوى أوراق هاربة من كتب الاقتصاد والسياسة، رُمِيت في الإعلام كي تجذب عطف الناس وتأييدهم.

حديث الرئيس ميقاتي عن أولويّات حكومته التي ترتكز على ثماني أعمدة. والحال أنّ الحكمة الميقاتيّة بَنَت بيتها ونحتت أعمدتها الثمانية، لكنّه بيت من دون سقف، فأين هو السقف يا دولة الرئيس؟

هذا السقف الضروريّ لحماية تلك الأعمدة، يجب أن يكون من الداخل: الدستورَ مرصّعاً بالقانون وبوثيقة الوفاق الوطني، ومن الخارج: العلاقة الوثيقة مع الأشقّاء العرب من الخليج إلى المحيط، لأنّها هي التي تحمي هذا المنزل “المتواضع” من العواصف والبراكين الدوليّة والإقليميّة التي لا تخمد.

هل يا تُرى لم يذكر ميقاتي السقف لأنّه قرأ المثل السويدي القائل إنّ البيت الذي يُبنى حسب أذواق الجميع يبقى من دون سقف.

أضف إلى ذلك أنّ تلك الأعمدة الثمانية مُصابة في الأساس بعطب جوهريّ، وهو أنّها مبنيّة على أرضيّة رخوة وخصبة تجعل تلك الأعمدة تميد وتترنّح عند كلّ محطة سياسية، بحيث تصير أقرب إلى السقوط على رأس الحكومة والشعب بسبب تصريحات ساذجة لأحد وزراء الصدفة، وكلام غير حصيف لـ”شيخ الدبلوماسية”، وغيرهما من السقطات الفادحة التي لمّا تنتهِ.

 

لنخُض معاً في أعمدة الحكمة الميقاتيّة الثمانية ونطّلع على أبرز ما جاء فيها:

1 – الأمن:  يستند الأمن في لبنان، حسب ميقاتي، على مرتكزات ثلاثة: الجيش، وقوى الأمن، وقوات الأمم المتحدة. يتحدّث ميقاتي عن “متابعة حكومته تقوية الجيش، وتعزيز دور قوى الأمن، ومعالجة الصعوبات الماليّة والأساسية”.

لا أحد يعلم ماذا يقصد بالمتابعة، هل هي المواظبة على قراءة أخبار زيارات قائد الجيش لهذه الدولة أو تلك، في محاولات حثيثة للحصول على مساعدات ماليّة، لإبقاء الجيش متماسكاً وقادراً على القيام بالمهمّات الموكَلة إليه؟ أم تتمثّل المتابعة في أخذ الحكومة علماً بأطنان الموادّ الغذائية التي ترسلها مصر وقطر والمغرب والأردن  وغيرها من الدول إلى الجيش شهريّاً؟

حكومة سعد الحريري الأخيرة والتي قبلها كانت تتحدث عن مشاريع إصلاحية وكهرباء أردنية وغازٍ مصري. وفي أرشيف حكومة حسان دياب ملفات متراكمة عن إجراءات وإصلاحات لا بدّ منها

ماذا فعلت حكومته لمساعدة الجيش؟ وكيف تتعامل مع ارتفاع نسبة التسرّب منه، التي وصلت حتى الآن إلى قرابة 5,000 من الضبّاط والعسكر؟ وما حال قوى الأمن التي تعاني المشكلة نفسها أيضاً، في وقت ارتفعت معدّلات الجريمة ونسبة السرقات بشكل قياسي؟

وفي الأمن أيضاً، يتحدّث ميقاتي عن “إيلاء أهميّة قصوى لترسيم الحدود البحرية، من أجل حلّ العديد من المشكلات التي تواجهنا”. سطر واحد يُكثّف الغموض المحيط بالقضيّة أكثر ممّا يُجْليه، فلم يُحِطْنا علماً أين وصلت المفاوضات وسط التخبّط في المواقف بين الجيش من جهة، ورئيس الجمهورية من جهة ثانية، ورئيس مجلس النواب من جهة ثالثة، وحزب الله من جهة رابعة، وأين تقف حكومته من كلّ تلك المواقف المتناقضة والرغبات والمصالح المتعارضة للجهات الثلاث الأخيرة؟

2 – الملفّ الماليّ والاقتصاديّ: تحدّث ميقاتي عن “تقديم أرقام موحّدة إلى صندوق النقد الدولي، وأنّ الحكومة اقتربت من إبرام مذكّرة تفاهم مع الصندوق، وعن تعديلات على خطّة التعافي الاقتصادي طلبتها الحكومة من شركة “لازار”، تتعلّق بتوزيع نسب الخسائر على الدولة والمصارف والمودعين، بالإضافة الى إعادة الثقة بالقطاع المصرفي”.

لم يخُضْ ميقاتي في طريقة حكومته في احتساب نسب الخسائر، لكنّ حديثه عن الأرقام الموحّدة يدلّ على موافقة مصرف لبنان وجمعية المصارف ولجنة المال النيابية.

ولم يتطرّق ميقاتي أيضاً إلى الكيفيّة التي ستُعيد بها الحكومة الثقة المفقودة بالمصارف، ولا سيّما في ظلّ الأنباء التي تتحدّث عن دعاوى ستتقدّم بها صناديق سيادية خليجية ضدّ المصارف اللبنانية، لامتناعها عن منحها ودائعها عند استحقاق آجالها، الأمر الذي قد تنتج عنه آثار كارثيّة على القطاع المصرفي المترنّح.

3 – الملفّ الاجتماعيّ: تحدّث عن شبكة الأمان الاجتماعية، وعن وجود اعتمادات مخصّصة لها بقيمة 245 مليون دولار، وعن صدور قانونها، لكنّ ثمّة تعديلات طلبها البنك الدولي لم تُقَرّ بسبب رفع جلسة مجلس النواب، فأُسْقِط في يده!

وبالطبع تطرّق ميقاتي إلى البطاقة التمويلية، التي أصبحت بمنزلة “قميص عثمان” الحكومة الذي ترفعه عندما تستدعي الحاجة. بيد أنّ رئيس الحكومة كان واضحاً وصريحاً في هذه النقطة، عندما قال إنّ مشروع البطاقة جاهز، لكنّ المشكلة في التمويل، الذي تسعى الحكومة إلى الحصول عليه من صندوق النقد، لعدم قدرة الخزينة على تمويلها إطلاقاً. وبهذا يدحض ميقاتي كلّ كلام وزراء حكومته، ووعودهم “الخلّبيّة” بقرب بدء العمل بها.

4 – الخدمات والبنى التحتيّة: الملفّ الأبرز فيها هو الكهرباء، التي تحدّث ميقاتي عن عمل حكومته على رفع ساعات التغذية بها إلى ما بين 10 و15 ساعة يومياً، خلال أسابيع قليلة، عبر ثلاثة روافد: النفط العراقيّ، والغاز المصريّ، والكهرباء الأردنيّة.

جديد ميقاتي في هذا الإطار هو مشروع الحلّ الكهربائي الشامل الذي تحدّث عنه، والذي يتيح 2000 ميغاوات كهرباء إضافية توفّر تغطية كهربائية شاملة.

قال رئيس الحكومة إنّ المشروع بات جاهزاً من دون أن يدخل في التفاصيل، مع أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل، التي لطالما وقفت حائلاً دون إنجاز أيّ خطوة تُفضي إلى معالجة هذا الثقب الأسود، الذي استنزف ماليّة الدولة بأكثر من 40 مليار دولار. الجدير بالملاحظة أنّ ميقاتي تجنّب تماماً ذكر كلمة 24/24 لِما لها من وقع سيّء في نفوس اللبنانيين.

وبالإضافة إلى الكهرباء، تحدّث ميقاتي عن خطّة للنقل العامّ بتمويل من البنك الدولي، وهو كان موجوداً في الأساس، لكن لم يتمّ تفعيله.

5 – الانتخابات النيابيّة: جدّد ميقاتي تعهّده بإجراء الانتخابات النيابية، سواء في 27 آذار أو في أيّ موعد آخر، مؤكّداً أن لا أحد يستطيع منع إجرائها.

6 – السياسات العامّة والمحلّيّة: “إعادة النظر في الأجور وبدل النقل، على أن تقابلها زيادة في الإيرادات”، وهنا بيت القصيد. فقد أكّد ميقاتي عزمه رفع الدولار الجمركي في أول جلسة لمجلس الوزراء، من دون تحديد سعر الصرف الذي سيرسو عليه. هل هو 3900، أم سعر منصّة صيرفة، أم سعر السوق الموازية؟ هذا وستلحق أيَّ تعديل في سعر الدولار الجمركي مباشرة زيادةٌ هائلةٌ في أسعار السلع والبضائع المستوردة. ويمكن اعتبار هذا الوعد أدقّ ما ورد في سلسلة الوعود “الميقاتيّة”.

على الرغم من إغراق الدولة ومؤسساتها في طوفان من عشرات الخطط والأفكار الإنقاذيّة، لكنّها ليست سوى أوراق هاربة من كتب الاقتصاد والسياسة، رُمِيت في الإعلام كي تجذب عطف الناس وتأييدهم

7- محاربة الفساد ووضع القوانين المطلوبة موضع التنفيذ: بما فيها 73 قانوناً إصلاحياً أقرّت ولم تصل إلى مرحلة التنفيذ. ولم يتحدّث عنها ميقاتي، الذي يبدو أنّه ليس لديه، أو لدى حكومته، أيّة مشاريع أو قوانين إصلاحية لمحاربة الفساد، على الرغم من تعهّده بذلك أمام فرنسا والمجتمع الدولي.

8 – القضاء وإصلاحه: أكّد مجدّداً أنّنا “لا نتدخّل بالقضاء الذي يتوجّب عليه تنقية نفسه بنفسه، وعلينا توفير الأجواء المناسبة له ليقوم بعمله على أكمل وجه”.

لا ندري مَن يقصد بالضمير المتّصل في “أنّنا”، ولا الضمير المستتر في “نتدخّل”، فربّما يتحدّث عن نفسه فقط. إذ لا يوجد فريق سياسي ممثّل في الحكومة لا يتدخّل في عمل القضاء ولا يحاول تسييره كما يريد. حتى إنّ أحزاباً غير ممثّلة في الحكومة تتدخّل، إضافة إلى بعض المرجعيّات الروحيّة.

بيد أنّ أحد الحاضرين سأله عن الأزمة مع السعودية، فأكّد مرّة جديدة الحرص على أفضل العلاقات مع المملكة، وكرّر دعوة وزير الإعلام إلى المبادرة إلى الاستقالة، مشدّداً على ضرورة أن يتحلّى كلّ وزير بالحسّ الوطنيّ، وأن يقدّر مصلحة اللبنانيين المقيمين والمنتشرين.

بالمحصّلة أطلق الرئيس ميقاتي حزمة وعود لا سند لها. فجميع الخطط التي تحدّث عنها تحتاج إلى اجتماعات مكثّفة لمجلس الوزراء لإقرارها، وكلمة السرّ في لمّ شمل الحكومة ليست لديه، ولا لدى الرئيس عون، إنّما هناك في الضاحية.

صحيح أنّ الرئيس ميقاتي تاجر ماهر يتقن إقناع كلّ زبون، في الداخل والخارج، بأنّ في متجره ما يريده من بضاعة، حتى لو كان خاوياً على عروشه، ولذلك هو “أبو ماهر”، بيد أنّ “مهارته” و”حكمته” تقفان عند حدود جزيرة العرب، فهناك يعرفون ميقاتي تمام المعرفة، ويعرفون أيضاً أنّ المشكلة ليست مع لبنان، إنّما في لبنان، كما قال وزير خارجية المملكة وأصاب كبد الحقيقة، التي يحاول ميقاتي وصحبه الالتفاف عليها بأعمدة حكمة من هنا، وبإدخال الإساءة إلى نبيّ الإسلام في بازار جدل يضرّ ولا ينفع من هناك، على ما قال الأمين العام لحزب الله في خطابه الأخير، موحياً أنّ المملكة العربية السعودية “لم تتحرّك” دفاعاً عن الرسول الأعظم.

ليست المرّة الأولى التي تضع الحكومة مشروعاً فيه الكثير من الحلول للكثير من عوامل الانهيار التي يعيشها اللبنانيون.

حكومة سعد الحريري الأخيرة والتي قبلها كانت تتحدث عن مشاريع إصلاحية وكهرباء أردنية وغازٍ مصري. وفي أرشيف حكومة حسان دياب ملفات متراكمة عن إجراءات وإصلاحات لا بدّ منها. فما هي العصا السحرية التي يملكها ميقاتي ولم تكن بيد الحريري أو دياب أو غيرهما؟

إقرأ أيضاً: حكومة قرداحي”: إنجازات من ورق!

عناصر التعطيل في هذه الحكومة هي نفسها في الحكومات السابقة، ولن يتغيّر موقف هذه العناصر، لأنّها ملتحقة بأزمات الإقليم…

استقِل يا دولة الرئيس واترك الأزمات كاملةً لمعطّلي الحلول.

مواضيع ذات صلة

هدنة الـ60 يوماً: الحرب انتهت… لم تنتهِ!

بعد عام ونحو شهرين من حرب إسناد غزة، و66 يوماً من بدء العدوّ الإسرائيلي عدوانه الجوّي على لبنان، واغتياله الأمين العامّ لـ”الحزب” السيّد حسن نصرالله،…

ألغام سياسيّة أمام الجيش في الجنوب!

بعدما أصبح وقف إطلاق النار مسألة ساعات أو أيام، لا بدّ من التوقّف عند العنوان الأوّل الذي سيحضر بقوّة على أجندة “اليوم التالي” في لبنان:…

أميركا مطمئنّة.. ونتنياهو “يسرق الوقت”

عاد الموفد الأميركي آموس هوكستين من زيارته إلى المنطقة، ووصل إلى العاصمة الاميركية أمس. وقبل أن يصل إلى واشنطن كان قد طمأن عين التينة إلى…

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…