شهران وثلاثة أيّام هو عمر حكومة نجيب ميقاتي. الحكومة المفترض أن تكون الأخيرة في عهد ميشال عون تغرق في أزمات وضعتها بعد 45 يوماً من ولادتها في ثلّاجة الانتظار.
حتّى رئيسها لم يكن على “قد كلمته” حين جاهر يوم صدور مراسيمها من القصر الجمهوري في العاشر من أيلول قائلاً: “لا نريد لأحد أن يعطّل، ومَن يريد التعطيل فليخرج من الحكومة ويتحمّل مسؤوليّة عمله”.
مَن تواصَل مع الرئيس ميقاتي في الأيام الماضية سَمِع منه كلاماً صريحاً مفاده أنّه “في كلّ ما أفعله أحاوِل أن أحمّل “المعطّلين” مسؤولية إصرارهم على عدم إيجاد حلّ للأزمة القائمة
يومئذٍ كان الكلام بين السطور موجّهاً إلى فريق الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل داخل الحكومة، بعدما قيل الكثير عن ثلث معطّل “كامن” بين أعضاء الفريق الوزاري. يعلم جيّداً ميقاتي هويّة مَن “يُكربِج” حكومته اليوم، لكنّه عاجز، كما غيره، عن مطالبة الفريق الشيعي، وتحديداً “حزب الله”، بالخروج من الحكومة، وهو المسؤول مباشرة عن فرض شرط تنحية القاضي طارق البيطار عن ملف التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، وعن منع وزير الإعلام جورج قرداحي من الاستقالة بعد ما بدر منه اتجاه المملكة العربية السعودية، أو حتّى السماح بإقالته تمهيداً لاستئناف جلسات مجلس الوزراء.
وللمفارقة يخوض الثنائي عون – باسيل معركة “عودة الحياة” إلى قاعة مجلس الوزراء “مجتمعاً”، فيما استنفد رئيس الحكومة كلّ الوسائل لإزاحة “لُغْمَيْ” البيطار وقرداحي من دربه. وهو يعاني بصمت من خلافٍ تجاوز كلّ السقوف والضوابط وآخذٍ نحو مزيد من التأزّم بين رئيسيْ الجمهورية ومجلس النواب.
وأمس، تُرجِم التشدّد الشيعي من خلال مواقف وزير الإعلام جورج قرداحي من عين التينة، بعدما زار رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وأكّد من هناك “عدم التطرّق إلى مسألة الاستقالة، وأنّها لن تكون من دون ضمانات لم تُعطَ حتّى الآن من الداخل ولا من الخارج”، متحدّثاً عن “ابتزاز ومزايدات لتقديم براءة ذمّة للسعوديين ودول الخليج”، مذكّراً بأنّ أساس المشكلة هي قضية القاضي طارق البيطار “والحكومة لم تكن تجتمع أصلاً. وقضية قرداحي ليست مشكلة لبنان الأساسية”.
إطلالة نصر الله
كان صعباً فصل توقيت هذا الموقف عن إطلالة الأمين العامّ لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي جزم أنّنا “لم نوافق على استقالة وزير الإعلام ونرفض الإقالة”، مؤكّداً “عدم التنازل للرياض لأنّها تفتعل أزمة كجزء من معركتها بوجه حزب الله”.
مَن تواصَل مع الرئيس ميقاتي في الأيام الماضية سَمِع منه كلاماً صريحاً مفاده أنّه “في كلّ ما أفعله أحاوِل أن أحمّل “المعطّلين” مسؤولية إصرارهم على عدم إيجاد حلّ للأزمة القائمة وتجاهلهم لِما يمكن أن ننجزه ضمن مساحة زمنية قصيرة، فيما الوقت يلعب ضدّنا، وقد تكون كلفة عدم استثماره باهظة جدّاً على الجميع”.
عمليّاً برز هذا التوجّه بشكل واضح من منبر المجلس الاقتصادي والاجتماعي، خصوصاً لجهة ما وصفه بـ”الخطوات المتقدّمة” عبر تقديم أرقام موحّدة لصندوق النقد الدولي، معلناً إمكانيّة “إبرام مذكّرة تفاهم مع الصندوق قريباً جدّاً”، إضافة إلى الاجتماعات مع البنك الدولي لـ”تحرير” ما تبقّى من مساعدات مرصودة للبنان، واحتمال تسلّم خطة التعافي الاقتصادي المحدّثة من شركة “لازار” الشهر الحالي، كما قال، وضرورة تقديم موازنة 2022 إلى المجلس النيابي قبل نهاية العام، وإعلانه “التريّث” في تمويل البطاقة التمويلية إلى حين الانتهاء من المفاوضات مع البنك الدولي الذي لم يسلّم لبنان المبلغ المرصود له والبالغ 546 مليون دولار.
وفي موضوع الكهرباء، رفع ميقاتي سقف طموحاته عالياً بحديثه عن تغذية كهربائية يوميّة تبلغ ما بين 10 و15 ساعة، مع “مصدر وحيد” متاح اليوم، وفق ما قال، هو النفط العراقي، من خلال توقيع عقد مع العراق للحصول على النفط الخام. وفي موضوع استيراد الغاز من مصر، أعلن ميقاتي أنّ القاهرة لم تقبل التوقيع على العقد قبل تسلّم رسالة أميركية تفيد بإعفاء لبنان من مترتّبات قانون قيصر، مؤكّداً حصول لبنان على 450 ميغاوات كهرباء باستيراد كميّة الغاز المطلوبة، إضافة إلى ما بين 200 و240 ميغاوات كهرباء من الأردن، مشيراً إلى وجود مشاكل تقنية تعترض ذلك حتى الآن.
يبدو التشدّد السعودي موجّهاً بالتوازي ضدّ حزب الله ورئيس الحكومة، وصلت رسائل لنائب طرابلس بأنّ حكومته “المُسيطَر عليها من قبل حزب الله لن يصلها أيّ دعم خليجي لا مع اعتذار ولا مع استقالة
أمّا مشروع الحلّ الكامل، وفق ميقاتي، فبات جاهزاً، وهو سيزوّد لبنان بـ2000 ميغاوات كهرباء إضافية، ما يتيح التغطية الكهربائية الكاملة في لبنان، لكن ليس قبل استكمال ثلاث خطوات ليست متيسّرة بعد، مع وعد بخطّة نقل مشتركة “جيّدة ومتوازنة” رصد لها البنك الدولي 290 مليون دولار منذ سنوات ونام قانون قبول هذه الهبة في أدراج مجلس النواب، وإعادة نظر في الأجور وبدل النقل.
لكن من أين لميقاتي كلّ هذا؟ فحكومته التي تتلوّى على صفيح الاشتباك الخليجي الساخن مع لبنان تكاد تفقد مقوّمات صمودها، مع توقّع مزيد من التشدّد وتضييق الخناق من قبل بعض دول الخليج، وفق تأكيدات المطّلعين.
وزراء الحكومة يَصلهم تباعاً، مع رئيس الحكومة، “الخبر العاجل” عن تحليق إضافي في سعر الدولار الذي تخطّى منذ تشكيل الحكومة أكثر من 25% من سعره مقابل الليرة، إذ قفز أمس فوق عتبة 23 ألفاً. أمّا متطلّبات المواطن اللبناني الأساسية فباتت وصفة للموت البطيء ربطاً بالارتفاع الجنوني في أسعار كلّ شيء بدءاً من ربطة الخبز.
وبدلاً من أن تُصدِر حكومة ميقاتي، عبر وزارة الخارجية، تشكيلات دبلوماسية هي أكثر من ملحّة تسمح بعودة سفراء إلى الإدارة المركزية في بيروت بعدما أتمّوا المدّة القانونية اللازمة لهم في الخارج، فإذا بلبنان يُنكَب بعودةٍ قبل أوانها لثلاثة سفراء مطرودين من السعودية والإمارات والبحرين.
وفيما يبدو التشدّد السعودي موجّهاً بالتوازي ضدّ حزب الله ورئيس الحكومة، وصلت رسائل لنائب طرابلس بأنّ حكومته “المُسيطَر عليها من قبل حزب الله لن يصلها أيّ دعم خليجي لا مع اعتذار ولا مع استقالة، والفيتو يطول “الكاش” للأجهزة الأمنيّة أيضاً”. يحدث ذلك بالتزامن مع إقفال تامّ لحنفيّة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في ظلّ واقع من “صفر إصلاحات”، خصوصاً في قطاع الكهرباء، والقطاع العامّ، والعجز عن توحيد سعر الصرف.
كلّ هذه الوقائع تهدّد إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المقرّر في 27 آذار، التي قد تتعطّل بفعل الطعن الذي سيقدّمه نواب التيار الوطني الحر. والانتخابات، في ميزان ميقاتي، هي “الإنجاز” الأهمّ بعد خطّة الكهرباء، بوصفهما مطلبين دوليّين. وهنا تُطرَح إشكالية مرتبطة بميقاتي نفسه والقرار بعزوفه عن المشاركة أو ترشيح نفسه، حيث أسَرّ شخصيّاً لمقرّبين منه بأنّ “النيابة لم تعد من ضمن أولويّاته”.
إقرأ أيضاً: أعمدة ميقاتي الثمانية: أين السقف؟
وهو خيار بات يرتبط بشكل وثيق بقرار مشاركة الرئيس سعد الحريري في الانتخابات النيابية، إذ سيكون ترشيح نائب طرابلس حتميّاً إذا “تنحّى” الحريري عن الواجهة النيابية، لأنّها ستكون فرصة ذهبيّة للتمدّد سنّيّاً حتّى في ظلّ وضع سياسي واقتصادي بالغ السوء، ورئاسته لحكومة عاجزة ومقصّرة.