أجادت حركة حماس في صنع الأغلفة لسياستها البراغماتية، وهذا أمر أخذته عن ياسر عرفات.
فهي حركة جهادية مبدئيّة جذريّة، كما تصنِّف نفسها، وكما تقيِّم بعض تحالفاتها. وهي حركة سياسية براغماتية تكتيكية، من حيث السلوك. وكلّ ذلك يُستخدَم عند الحاجة وبلا ضوابط.
وأخال حماس درست جيّداً ظاهرة ياسر عرفات وأسلوبه في إدارة العلاقات مع المختلفين والمتناقضين وحتى المتحاربين. فمَن غير ياسر عرفات كان ينطلق من مطار جدّة أو الرياض على متن طائرة سعودية ليعبر بها أجواء متناقضة الولاء، وليهبط بها في موسكو. وبعد أن ينهي محادثاته “مع سدنة الكفر والإلحاد في عاصمة الشرّ”، فلا بأس من استثمار الطائرة الثمينة ليعرّج بها على الخرطوم حيث حليفه الترابي، ثمّ إلى القاهرة حيث المبارك حسني مبارك ليستأذنه في لقاء إن لم يكن مع المرشد فمع نجل حسن البنّا، فيما يكون أسامة الباز قد هيّأ له لقاءً مع قادة اليسار والمعارضة، مثل لطفي الخولي وخالد محيي الدين، ينتهي بعشاء في مطعم على شاطئ النيل، بحضور الساخر محمود السعدني ونور الشريف، وكوكبة من الفنّانين النجوم من يساريّين ويمينيّين. أما خطوطه مع الكتّاب والصحافيين فلم يكن ليفلت منها أحد.
وكلّما تصاعدت الخلافات بين دولة عربية وأخرى، أو بين دولة وجوارها، إلى حدّ استخدام السلاح، كان يجد لنفسه ممرّاً بين الجبهات، هو ممرّ عرفات للوساطة، فإن نجحت يكسب ودّ الطرفين، وإن لم تنجح يكون كسب الممرّ واحتفظ بالعلاقات.
حين فجّر الرئيس أنور السادات قنبلته في وجهه، حين أعلن استعداده لزيارة القدس وإلقاء خطاب في الكنيست، كان عرفات جالساً في الصفّ الأوّل. وبعد انفجار القنبلة ذهب بصمت وهدوء إلى المطار وعاد إلى بيروت، وامتنع عن أن يقول شيئاً في الأمر. وحين اكتملت المنظومة العربية الرافضة لزيارة السادات والمقاطِعة لمصر، كان آخر الملتحقين بها، وذلك بعد أن احتلّ دوره في الوساطة الرئيس سليم الحص الذي كلّفه بذلك مؤتمر قمّة بغداد.
المفارقة أنّ أهل عرفات لم ينجحوا في الاقتداء به حتى لو رغبوا أو اضطرّوا. أمّا حماس فأخذت منه ما ينفعها، وأخذت عليه ما يؤيّد أغلفة سياستها
كانت طريقة عرفات في العمل بين المتناقضات والخروج سالماً من معاركها، التي لا تتوقّف، جديرة بأن تُوصف بـ”المدرسة”. صحيح أنّها لم تحرّر لعرفات بعض وطنه، ولم تُقِم له دولة على أرضه، إلا أنّها وفّرت له ولثورته ولآماله وأهدافه حاضنة تكفي لإدامة الحياة ومواصلة المحاولة.
ذهب عرفات وها نحن نقترب من ذكرى رحيله، وذهبت معه طرق عمله.
غير أنّ حماس، التي أجّلت انقلابها على فتح والمنظّمة والسلطة، إلى ما بعد وفاته، ليقينها بأنّها لن تنجح في ما تريد وهو على قيد الحياة، فإنّها حين تمكّنت، وقبل ذلك وبعده، أخذت الكثير من طرقه في العمل. فقد طار هنيّة من القاهرة إلى الدوحة في وقت كان بين أصحاب المطارين خلاف عميق، وطار إلى طهران وقبّل يد المرشد وشارك في تأبين قاسم سليماني، الذي كان يلقّب نفسه بفاتح العواصم والمدن العربية. وبعد غضب وعتب وصلنا إلى الجملة العربية الأثيرة “المسامح كريم”، فعاد إلى القاهرة، ومنها إلى غزّة، ولعلّه لم يجد مكاناً أكثر أمناً وأماناً وفاعليّةً لعقد الاجتماعات المركزية لحماس من القاهرة التي رحّبت به وبزملائه. ولو عرضنا أدبيّات حماس في وصف مصر لوجدناها كما لو أنّها مستنسخة بالحرف عن أدبيّات عرفات، إلا أنّ الأخير تفوّق بتكرار القول: “أنا مصريّ الهوى”.
إقرأ أيضاً: الفلسطينيّون… فوضى الخيارات
المفارقة أنّ أهل عرفات لم ينجحوا في الاقتداء به حتى لو رغبوا أو اضطرّوا. أمّا حماس فأخذت منه ما ينفعها، وأخذت عليه ما يؤيّد أغلفة سياستها. ولمّا كنّا نقترب من ذكرى رحيله فلن تضيّع حماس هذه المناسبة، وستنظّم فعّاليّة كبرى في غزّة، الحاضنة الأولى لظاهرة عرفات، في ذكرى رحيله، مثلما كان عرفات سيفعل لو استشهد قائد حماس وهو على قيد الحياة.