ما يتردّد على ألسنة بعض القضاة والمحامين من الطائفة الشيعية على أثر مشهديّة “الملاحقة النسويّة” التي تعرّض لها القاضي حبيب مزهر منذ ثلاثة أيام داخل مكتبه في قصر العدل، وإقفال مكتبه “بالشمع الأحمر”، ولو بالمعنى المجازي، هو أفضل تعبير عمّا يدور في أذهان بعض أبناء هذه الطائفة، ولا سيّما من طبقة الحقوقيّين الحزبيّين.
ثمّة مَن يقول بين هؤلاء إنّ هذه الطائفة قدّمت سيلاً من التضحيات، سواء في الجانب المرتبط بالصراع مع إسرائيل، أو في ذلك المتّصل بالحرب ضدّ المجموعات المتطرّفة. ويغوص هؤلاء في علاقة “حزب الله” مع شريكه المسيحي، أي “التيار الوطني الحر”، فيشيرون بالإصبع إلى أنّ “الحزب” دعم وحارب من أجل وصول المسيحي القوي، وهو رئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية، إلى رئاسة الجمهورية، ثمّ خاض معركة قانون الانتخابات الذي ساهم في تصحيح التمثيل المسيحي، ودافع بقوّة عن خيارات الحليف المسيحي في كلّ التعيينات التي أجراها، وأهمّها رئاسة مجلس القضاء الأعلى، حين اختار رئيس الجمهورية ميشال عون القاضي سهيل عبود من دون استشارة أيّ من حلفائه.
يقول أحد المواكبين إنّ “الكربجة” السياسية الواقعة، التي قد تُحيل حكومة نجيب ميقاتي إلى التقاعد المبكر، وتعطّل المسار السياسي في نظام متهاوٍ يلفظ أنفاسه الأخيرة، لها أبعاد كثيرة
وها هو مجلس القضاء الأعلى “يرتكب”، بنظر الثنائي الشيعي، “المعصيات القانونية” على عين الرئاسة الأولى وبدعمها، فتصير هذه الأخيرة طرفاً في الصراع الدائر حول تحقيقات المرفأ، لا بل تصبح فريقاً خصماً للثنائي الشيعي الذي يحاول عبر الطرق القانونية “فضح” التسييس الفاقع الذي جعل من أحكام بعض القضاة غبّ الطلب، فأدّى إلى انقسام العدليّة وجسمها القضائي على نحو عموديّ طائفي سيترك الكثير من الندوب في جسم السلطة القضائية.
لكنّ الأهمّ من ذلك كلّه هو شعور الثنائي الشيعي، بما يمثّله من الطائفة الشيعية، بالاستفراد، بعدما التحق حليفهما المسيحي، بسبب فيروس المزايدة أوّلاً، وضغط العقوبات الأميركية والأوروبية ثانياً، بركب تطويق “الثنائي” بحبل التحقيقات العدليّة التي يقودها القاضي طارق البيطار، وكأنّ “التيار الوطني الحر” قرّر في لحظة تخييره بين “حزب الله” ومستقبل جبران باسيل المعلّق على مشنقة العقوبات، الانحياز إلى الثاني على حساب الأوّل.
هذا الكلام يُتَداول به على نطاق واسع بين قضاة ومحامين من الطائفة الشيعية يشعرون بأنّهم مطوّقون في خضمّ المعارك القانونية الناشبة بين مكوّنات الجسم القضائي، وبأنّهم باتوا مكشوفين ومن دون أيّ حليف.
ولعلّ هذا ما يفسّر السجال السياسي الذي خرج إلى تبادل البيانات الإعلامية يوم الأربعاء، بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري. لم يعبّر فقط عن نقطة طاف بها كوب الخلافات المزمنة الناشئة بين الفريقين، وإنّما عمّا هو أبعد من ذلك. يقول أحد المواكبين إنّ “الكربجة” السياسية الواقعة، التي قد تُحيل حكومة نجيب ميقاتي إلى التقاعد المبكر، وتعطّل المسار السياسي في نظام متهاوٍ يلفظ أنفاسه الأخيرة، لها أبعاد كثيرة.
يقول أحد أعضاء “تكتل لبنان القوي” إنّ “التعطيل الذي يمارسه الحزب يدفعنا إلى التصويب عليه بالمباشر”، وإنّ “المعركة المفتوحة بوجه رئيس حزب القوات سمير جعجع تملي علينا اتّخاذ الموقف الهجومي
وفق هؤلاء، فإنّ الأزمة السياسية – القضائية (وفي آخر مستجدّاتها تقدُّم وكيل النائبين غازي زعيتر وعلي حسن خليل أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز بدعوى مخاصمة الدولة عن القضاة نسيب إيليا، مريام شمس الدين وروزين حجيلي)، مرشّحة لمزيد من التعقيد في ضوء تضارب المصالح بين القوى السياسية المحليّة، وتحديداً الحليفة، من جهة، وبين تصاعد وتيرة التوتّر الإقليمي من جهة أخرى، بشكل يرفع من منسوب السيناريوهات ذات الطابع الاشتباكي.
يضيف هؤلاء أنّ السجال بين بعبدا وعين التينة يعبّر عن عمق مأزق العلاقة بين “التيار الوطني الحر” وبين الثنائي الشيعي، وليس مع حركة “أمل” لوحدها، كما كان يحدث في المرّات السابقة. فقد بات يتجلّى بوضوح أنّ الرئاسة الأولى قرّرت خوض المعركة النيابية لـ”التيار الوطني الحرّ” من قصر بعبدا، ولو على حساب تفاهم مار مخايل، فيما يخوض الثنائي الشيعي معركة الدفاع عن الوجود السياسي.
ويتماهى هذا السجال مع الحملة التي يشنّها النواب العونيون ضدّ “حزب الله” بالمباشر، وكأنّ هناك أمر عمليّات متّخذاً على مستوى القيادة. إذ يقول أحد أعضاء “تكتل لبنان القوي” إنّ “التعطيل الذي يمارسه الحزب يدفعنا إلى التصويب عليه بالمباشر”، وإنّ “المعركة المفتوحة بوجه رئيس حزب القوات سمير جعجع تملي علينا اتّخاذ الموقف الهجومي لأنّ أيّ اشتباك بين حزب الله والقوات يصبّ حكماً في خانة مصلحة الأخير… ولهذا يفترض بنا أن نقود الهجوم المضادّ”.
إقرأ أيضاً: حفلة “الجنون” القضائي مستمرّة: صوّان راجِع
وعليه يؤكّد هؤلاء أنّ هذا الشرخ الحاصل قد يدفع الثنائي الشيعي إلى التفكير مليّاً في مكانتهما السياسية في النظام المهترىء، والبحث جدّيّاً في بدائل يُفترض تجهيزها ووضعها على طاولة التفاوض الكبيرة الواقعة خلف الحدود، حيث يتبيّن أنّ “الحصار” الداخلي الذي باتا يعانيان منه يُفقدهما الحماسة لابتكار مزيد من الحيل الترقيعية التي صارت تقضم من مصالحهما من دون أيّ جدوى سياسية… فهل يمكن القول إنّ ورشة نفض النظام الداخلي انطلقت من العدليّة؟