وعد بلفور: القصّة الكاملة

مدة القراءة 8 د

في الثاني من تشرين الثاني 1917، صدر الوعد البريطاني الشهير بمنح اليهود وطناً قوميّاً في فلسطين. حمل الوعد توقيع وزير الخارجية في ذلك الوقت آرثر بلفور.

مَن هو بلفور؟

وما هي خلفيّة الوعد الذي أصدره؟

كان بلفور من المؤمنين بأنّ التاريخ ليس سوى أداة لتنفيذ الهدف الإلهي، وأنّ الإنسان مكلّف بالعمل على تنفيذ هذا الهدف، وأنّ أوّل ما يتطلّب منه ذلك هو الإيمان أوّلاً بأنّ ثمّة هدفاً إلهياً، وثانياً بإمكانيّة تحقيق هذا الهدف أيّاً تكن الصعوبات.

آمن بلفور، كما أوضح في كتابه “العقيدة والإنسانيّة”  (Theism and Humanity)، بأنّ الله أغدق على اليهود وعداً بالعودة إلى أرض الميعاد، وأنّ هذه العودة هي شرط مسبق للعودة الثانية للمسيح، وأنّ هذه العودة الثانية تحمل معها خلاص الإنسانية من الشرور والمحن ليعمّ السلام والرخاء مدّة ألف عام تقوم بعدها القيامة وينتهي كلّ شيء كما بدأ.

عندما صاغ بلفور الوعد بمنح اليهود وطناً في فلسطين، كان يعتقد أنّه بذلك يحقّق إرادة الله، ويؤدّي وظيفة العامل على تحقيق هدف إلهي من خلال مساعدة اليهود على العودة

اكتسب بلفور هذه الثقافة من عائلته، وخاصّة من والدته التي تركت في شخصيّته الدينية بصمات واضحة من إيمانها بالعقيدة البروتستانتيّة المرتبطة أساساً بالعهد القديم وما فيه من نبوءات توراتيّة.

ولذلك عندما صاغ بلفور الوعد بمنح اليهود وطناً في فلسطين، كان يعتقد أنّه بذلك يحقّق إرادة الله، ويوفّر الشروط المسبقة للعودة الثانية للمسيح، ويؤدّي وظيفة العامل على تحقيق هدف إلهي من خلال مساعدة اليهود على العودة.

مع ذلك لم يكن بلفور قادراً على أن يجعل من الوعد أساساً مركزيّاً في السياسة البريطانية لو لم يكن يشاركه في ذلك شخص آخر هو لويد جورج رئيس الحكومة في ذلك الوقت.

من هو لويد جورج؟

ذكر لويد جورج في كتابيْن له، هما “حقيقة معاهدات السلام” و”ذكريات الحرب”، أنّ حاييم وايزمن، الكيميائي الذي قدّم خدماته العلميّة لبريطانيا في الحرب العالمية الأولى، هو الذي فتح له عينيه على الصهيونية، حتى أصبح أكثر صهيونيّةً من وايزمن نفسه.

وعندما تشكّلت الحكومة البريطانية من لويد جورج رئيساً، ومن آرثر بلفور وزيراً للخارجيّة، بدا وكأنّ كلّ شيء بات مؤهّلاً لتمرير بيان الوعد.

في عام 1952، نشرت وزارة الخارجيّة البريطانية وثائق سرّيّة عن فترة 1919 – 1939، ومن بينها تلك التي تتعلّق بتوطين اليهود في فلسطين. ويتضمّن المجلّد الرابع من المجموعة الأولى، في الصفحة السابعة، نقلاً عن مذكّرة وضعها وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور في عام 1917، ما يأتي :

“ليس في نيّتنا حتى مراعاة مشاعر سكّان فلسطين الحاليّين، مع أنّ اللجنة الأميركية تحاول استقصاءها. إنّ القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية. وسواء أكانت الصهيونية على حقّ أم على باطل، جيّدة أم سيّئة، فإنّها متأصّلة الجذور في التقاليد القديمة العهد والحاجات الحالية وآمال المستقبل. وهي ذات أهميّة تفوق بكثير رغبات وميول السبعمئة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة “.

أمّا بالنسبة إلى الاستيطان اليهودي في فلسطين فقد أوصى في الجزء الأخير من هذه المذكّرة بما يلي :

“إذا كان للصهيونيّة أن تؤثّر على المشكلة اليهودية في العالم فينبغي أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود. ولذا فإنّ من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائيّة التي تخصّها بشكل طبيعي، سواء أكان ذلك عن طريق توسيع حدودها شمالاً (أي باتّجاه لبنان) أم عن طريق عقد معاهدة مع سورية الواقعة تحت الانتداب (الفرنسي) والتي لا تعتبر المياه المتدفّقة من “الهامون” جنوباً ذات قيمة بالنسبة إليها. وللسبب ذاته يجب أن تمتدّ فلسطين لتشمل الأراضي الواقعة شرقي نهر الأردن”.

لم يكن العامل الديني السبب الوحيد وراء إصدار الوعد. كانت هناك مصالح ذات بعد استراتيجيّ. وقد توافق العمل على خدمة هذه المصالح ورعايتها مع الإيمان الديني بالصهيونية المسيحية، وهو ما أدّى إلى الالتزام بالوعد وبتنفيذه.

كان بإمكان بريطانيا التدخّل لمنع تهجير اليهود من أوروبا الشرقية، إلا أنّها وجدت أنّ لها مصلحة في توظيف هذه العمليّة في برنامج توسّعها في الشرق الأوسط

ففي الأساس كانت بريطانيا قلقة من جرّاء هجرة يهود روسيا وأوروبا الشرقية الذين كانوا يتعرّضون للاضطهاد. وفي عام 1902 تشكّلت “اللجنة الملكية لهجرة الغرباء”.

اُستُدعي هرتزل إلى لندن للإدلاء بشهادته أمام اللجنة. فقدّم مطالعة قال فيها:

” لا شيء يحلّ المشكلة التي دعيت اللجنة إلى بحثها وتقديم الرأي في شأنها سوى تحويل تيّار الهجرة الذي سيستمرّ بقوّة متزايدة من أوروبا الشرقية. إنّ يهود أوروبا الشرقية لا يستطيعون أن يبقوا حيث هم، فأين يذهبون؟ إذا كنتم ترون أنّ بقاءهم هنا، أي في بريطانيا، غير مرغوب فيه، فلا بدّ من إيجاد مكان آخر يهاجرون إليه من دون أن تثير هجرتهم المشاكل التي تواجههم هنا. لن تبرز هذه المشاكل إذا وُجِد وطن لهم يتمّ الاعتراف به قانونيّاً وطناً يهوديّاً”.

اقترح تشرمبرلين، وكان رئيساً للحكومة، منطقة العريش لتكون وطناً لليهود. ولكنّ لجنة الخبراء الصهيونيّين رفضت الاقتراح لأنّ العريش تفتقر إلى المياه، ثمّ لأنّ توطين اليهود فيها يثير مشاكل لبريطانيا مع مصر. ثمّ اقترحت الحكومة البريطانية برئاسة اللورد آرثر بلفور هذه المرّة، تقديم أوغندة لتكون الوطن الموعود. ولكنّ المؤتمر الصهيوني السادس لم يقبل الاقتراح لافتقار أوغندا إلى عنصر الجاذبيّة اللازم لاستقطاب اليهود ولحثّهم على الهجرة إليها.

في ذلك الوقت كان همّ الحكومة البريطانية وقف تدفّق اليهود من أوروبا الشرقية. ولذلك فقد قدّمت مشروع قانون إلى مجلس العموم لوقف الهجرة في عام 1904، ثمّ اضطرّت إلى سحبه تحت ضغط المعارضة. وأعادت تقديمه ثانية في عام 1905، وأصبح قانوناً في العام التالي.

أوروبا تريد التخلّص من اليهود

هنا كان لا بدّ بعد تشريع وقف الهجرة من تأمين ملجأ بديل، فكان قرار بلفور بمنح فلسطين وطناً لليهود. كان لويد جورج رئيساً للحكومة وآرثر بلفور وزيراً للخارجية عندما وُضِع التشريع التوطينيّ. كانت بريطانيا تعتبر احتلال فلسطين ضرورة استراتيجيّة، إلا أنّ طموحها الاحتلاليّ كان يصطدم بمبادئ الرئيس الأميركي وودرو ولسون حول حقّ الشعوب في تقرير مصيرها. فجاء وعد بلفور بمنزلة عمليّة التفافيّة على هذه المبادئ، وذلك باحتلال فلسطين من خلال توطين اليهود. وهكذا صدر الوعد في الثاني من تشرين الثاني 1917 ليعطي مَن لا يملك إلى مَن لا يستحقّ.

كان بإمكان بريطانيا التدخّل لمنع تهجير اليهود من أوروبا الشرقية، إلا أنّها وجدت أنّ لها مصلحة في توظيف هذه العمليّة في برنامج توسّعها في الشرق الأوسط، فحوّلت قوافل المهاجرين إلى فلسطين بعدما منحتهم الوعد بالوطن، وبعدما وفّرت لهم الحماية والمساعدة اللازمتين.

ولعلّ من أبرز الدلالات على الربط الاستراتيجيّ بين أهداف الحركة الصهيونية وأهداف الدولة البريطانية ما ذكرته صحيفة “مانشستر غارديان” بقلم رئيس تحريرها في ذلك الوقت (عام 1916) تشارلز سكوت الذي قال :

“كانت بلاد ما بين النهرين مهد الشعب اليهودي ومكان منفاه في الأسر. وجاء من مصر موسى مؤسّس الدولة اليهودية. وإذا ما انتهت هذه الحرب بالقضاء على الإمبراطورية التركية في بلاد ما بين النهرين، وأدّت الحاجة إلى إنشاء جبهة دفاعية في مصر إلى تأسيس دولة يهودية في فلسطين فسيكون القدر قد دار دورة كاملة”.

أمّا عن أهل فلسطين، فإنّ الكلام الذي يُقال اليوم هو نفسه الكلام الذي كان يُقال قبل 82 عاماً. فقد قال سكوت :

” ليس لفلسطين في الواقع وجود قومي أو جغرافي مستقلّ إلا ما كان لها من تاريخ اليهود القديم الذي اختفى مع استقلالهم. ولذلك عندما أطلق عليها بلفور اسم وطن قوميّ لم يكن يعطي شيئاً يخصّ شخصاً آخر.                                      

إنّها روح الماضي التي لم يستطع ألفا عام أن يدفناها، والتي يمكن أن يكون لها وجود فعليّ من خلال اليهود فقط. لقد كانت فلسطين هي الأرض المقدّسة للمسيحيين. أمّا بالنسبة إلى غيرهم فإنّها تعتبر تابعة لمصر أو سورية أو الجزيرة العربية، لكنّها تُعدّ وطناً قائماً بذاته بالنسبة إلى اليهود فقط”.

إقرأ أيضاً: درسٌ من التاريخ الأوروبيّ

اُعتُبر وعد بلفور جزءاً من الانتداب البريطاني على فلسطين. وهو انتداب قرّره في مؤتمر سان ريمو عام 1902 المجلس الأعلى لقوات الحلفاء. وفي عام 1922، أقرّت عصبة الأمم الانتداب ومعه الوعد. بعد الحرب العالمية الثانية وما رافقها من مجازر نازيّة، اتّسع نطاق الهجرة اليهودية من أوروبا الغربية هذه المرّة إلى فلسطين، وتحوّل الوعد بوطن قوميّ لليهود إلى دولة سرعان ما اعترفت بها رسميّاً منظمة الأمم المتحدة في عام 1948.

أمّا أهل البلاد الأصليّون فقد أصبح نصفهم لاجئين، ونصفهم محتلّين.. إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…