درسٌ من التاريخ الأوروبيّ

مدة القراءة 5 د

لعلّ أوّل محاولة لتوحيد أوروبا قام بها ملك فرنسا هنري الرابع (1589-1610). في ذلك الوقت كانت فرنسا تعيش عصراً ذهبيّاً من القوّة والتطوّر. إلا أنّ الإمبراطوريّة العثمانيّة بقيادة محمد الثالث كانت تتمدّد في شرق أوروبا بعدما استولت على البلقان.

قام بصياغة مشروع الملك الفرنسي سياسيّان بارزان من نبلاء ذلك الزمن. ونُشِر المشروع تحت عنوان: “مذكّرات حكماء ومستشاري هنري الكبير”.

كان الهدف من المشروع “إقامة كونفدراليّة أوروبيّة توحّد المسيحيّين تحت مظلّة السلام، وتحارب الكفّار بلا هوادة”.

كان الهدف من المشروع “إقامة كونفدراليّة أوروبيّة توحّد المسيحيّين تحت مظلّة السلام، وتحارب الكفّار بلا هوادة”

وبموجب هذا المشروع “يُطرَد العثمانيّون الكفّار من أوروبا، وتواصل القوّة الأوروبيّة المشتركة مطاردتهم، فإمّا أن يتحوّلوا إلى المسيحيّة خلال عام أو يُهَجَّروا مع أمتعتهم إلى حيث يشاؤون”.

والمشروع، الذي يحذِّر من عاقبة تجاوز هذه الأهداف، يحدّد هدفين استراتيجيَّيْن:

– طرد الكفّار.

– وإقامة الكونفدراليّة الأوروبيّة التي تحقّق الأمن والسلام في ظلّ “جمهوريّة أوروبيّة مسيحيّة”.

كان المشروع يقتضي جمع 15 دولة في ثلاث مجموعات مستقلّة. وكان ينصّ على منح نابولي كلّها إلى الفاتيكان، واسترضاء قيصر النمسا بمنحه السيطرة على سويسرا (“هالفيتيا” كما كانت تُدعى في ذلك الوقت).

ولأنّ هنغاريا كانت تُعتبر مع ألمانيا وإيطاليا رأس الحربة في مواجهة الكفّار (العثمانيّين)، فسوف تُمنح مقعداً موازياً في الكونفدراليّة إلى جانب المقاعد المخصّصة للثمانية الكبار: البابا، القيصر، ملوك كلّ من فرنسا وإسبانيا وإنكلترا والدانمرك والسويد ولومبارديا.

ولزيادة تقوية هنغاريا يضمّ المشروع إليها مقاطعات من النمسا، إضافةً إلى سلوفينيا والبوسنة وكرواتيا.

أمّا بالنسبة إلى بولندا التي وقفت مع ألمانيا في مواجهة الروس والتتار، فالمشروع ينصّ على توفير حماية خاصّة لها بما يساعدها على تسوية مشاكلها مع كلّ جيرانها، ويمكّنها من انتزاع أكبر مساحة ممكنة من الأراضي التي يحتلّها العثمانيّون.

وأمّا فينيسيا (البندقيّة) التي تقع في الخطّ الأماميّ بحكم موقعها الجغرافيّ في مواجهة العثمانيّين، والتي كانت هدفاً في متناول يدهم، فقد تقرّر تشكيل لجنة خاصّة برئاسة ملك فرنسا نفسه لمتابعة مستلزمات مساعدتها على مواجهة العدوّ.

تبقى الدويلات الإيطاليّة، التي مثل كلّ المدن – الدول الأخرى في شبه الجزيرة الإيطالية، توضع تحت سيطرة الفاتيكان وإدارته المباشرة، ومن بينها مملكة لومبارديا وجمهورية البندقيّة.

نصَّ المشروع على إنشاء جيش موحَّد أُطلق عليه اسم الجيش الأوروبيّ الصليبيّ، ويتألّف من 117 سفينة حربيّة، و215 مدفعاً، و200 ألف جنديّ، و53 ألف فارس (خيّال)، على أن يكون هذا الجيش تحت إمرة ملك فرنسا بصفته القائد الأعلى

أقفل المشروع الوحدويّ الأوروبيّ أبوابه بوجه روسيا بحجّة أنّ القيصر كان يمارس سلطة على شعبه تتجاوز السلطات التي يمارسها الملوك الأوروبيّون على شعوبهم: “وهي التهمة ذاتها التي كانت تُوجَّه إلى الكرملين في المرحلة السوفياتيّة، والتي تُوجَّه اليوم إليه في المرحلة الروسيّة”. وكان التوسّع الروسيّ يتّجه شرقاً في قارّة آسيا، وشعوبها غير أوروبيّة. غير أنّ المبرّر الأساس هو أنّ روسيا كانت تدين بالمسيحية الأرثوذكسيّة. وكانت أوروبا، وخاصّة فرنسا صاحبة المشروع الوحدويّ، تدين بالمسيحيّة الكاثوليكيّة، بل وكانت تعتبر أنّ المسيحيّة هي الكاثوليكيّة.

نصَّ المشروع أيضاً على إنشاء مجلس قضاء أعلى أشبه ما يكون بالمحكمة الدوليّة القائمة اليوم في لاهاي (هولندا)، مهمّته معالجة الخلافات التي قد تقع بين الدول الأعضاء في “الجمهوريّة الأوروبيّة المسيحيّة”، ومنع تحوّل الاختلافات بينها إلى صراعات وحروب.

إضافة إلى ذلك، نصَّ المشروع على إنشاء جيش موحَّد أُطلق عليه اسم الجيش الأوروبيّ الصليبيّ، ويتألّف من 117 سفينة حربيّة، و215 مدفعاً، و200 ألف جنديّ، و53 ألف فارس (خيّال)، على أن يكون هذا الجيش تحت إمرة ملك فرنسا بصفته القائد الأعلى.

أجرت فرنسا اتّصالات مع كلّ الجهات المعنيّة في أوروبا في ذلك الوقت بإقامة الجمهوريّة الأوروبيّة العتيدة، ومن بينهم ملوك إنكلترا وبولندا وبابا الفاتيكان وكلّ حكّام وأمراء المقاطعات.

وحدها النمسا لم توافق على المشروع، فاُعتُبرت “عاصية” على الوحدة الأوروبيّة. ولكنّها لم تستطع إسقاطه. فما أسقطه هو اغتيال صاحب المشروع ملك فرنسا هنري الرابع في عام 1610. وقع حادث اغتياله عندما كان في طريقه لعيادة أحد واضعي المشروع “الديوك سالي”، الذي لم يعِش طويلاً بعد موت الملك. إلا أنّه سجّل في مذكّراته عبارةً قال فيها: “لو لم يُقتَل الملك لكان المشروع حقيقة قائمة”.

إقرأ أيضاً: فورين بوليسي: أوروبا خائفة على نفسها… من لبنان

قامت هذه الحقيقة فعلاً بعد حوالي مئتيْ عام من موت الملك من خلال الاتّحاد الأوروبيّ، لكن بعدما دفع الأوروبيّون الثمن باهظاً جداً، ليس من خلال الحرب مع العثمانيّين، بل من خلال الحروب الدينيّة بين الكاثوليك والبروتستانت، ثمّ من خلال الحرب العالميّة الأولى، فالحرب العالميّة الثانية. وكانت تركيا، لسخرية القدر، حليفاً للدول الأوروبيّة في الحربين. وهي لا تزال حتّى اليوم تقف أمام بوّابة الاتّحاد الأوروبيّ.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…