مسكينة هذه الحكومة. ومسكين رئيسها. توالت عليها الأزمات وهي في بداية “شهر العسل” (100 يوم سماح تُعطى عادةً للحكومات الجدية)، علماً بأنّه لن يكون لديها سوى أيّام بصل في ظلّ الانهيار. المفارقة أنّ الأزمات لا تأتي من المعارضة. فهذه عمليّاً غير موجودة. إنّما تأتيها من أولياء أمرها، وتحديداً من وليّ أمرها حزب الله.
1- أولى الأزمات قضيّة التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت. السيّد حسن نصرالله خرج على الحكومة يأمرها بـ”قبع” القاضي البيطار، وإلّا! ارتبكت. صرخ وزير الحزب في الجلسة مهدِّداً متوعِّداً. فلم تعُد تستطيع الحكومة الاجتماع.
2- ثاني الأزمات حادثة الطيّونة التي تفرّعت من الأولى. مسبّبها أيضاً وليّ أمر الحكومة حزب الله، ومعه حركة أمل. بعد الـ”ميني حرب” التي خاضها الثنائيّ الشيعيّ ضدّ أبناء عين الرمّانة، خرج السيّد نصرالله شخصيّاً يهدّد ويتوعّد بمئة ألف مقاتل، غير عابئ لا بدولة ولا بحكومة ولا بجيش وطنيّ ولا بقوى أمنيّة…
إقليميّاً، إنّها حكومة غير مقبولة عربيّاً، بخاصة من المملكة العربية السعودية. ولذلك ترفض السعودية الحوار معها لحلّ أزمة تصريحات الوزير قرداحي
3- لم تكد الحكومة تستفيق من الأزمتين، حتّى أتتها الثالثة. وهذه المرّة ربّما قاضية. استفاض جورج قرداحي في تحليلاته الشرق أوسطيّة فخلق أزمة غير مسبوقة مع دول الخليج العربي. سحب العديد منها سفراءه من لبنان، وطلب من السفراء اللبنانيّين لديه المغادرة. طلب رئيس الحكومة من الوزير “تقدير المصلحة الوطنية واتّخاذ القرار المناسب لإعادة إصلاح علاقات لبنان العربية”. فخرج حزب الله، وكالعادة، يهدِّد ويتوعَّد رافضاً أيّ “دعوة إلى إقالة الوزير قرداحي أو دفعه إلى الاستقالة”.
ومن هنا حتى نشر هذه السطور، الله أعلم إذا ما استجدّت أزمة رابعة وخامسة…
“جازة جوّزتِك، ولكن حظّ من وين بجِبلِك؟”.
ينطبق هذا القول على الشعب اللبناني الذي انتظر طويلاً لتكون لديه حكومة تكبح الانهيار وتخفّف عنه نار “جهنّم”. وُلدت بعد انتظار طال ثلاثة عشر شهراً. ولكن انهارت في شهرها الأوّل. المسألة ليست مسألة حظّ. الطريقة التي تشكّلت بها، والمفاوضات التي سبقت تشكيلها داخليّاً وإقليميّاً ودوليّاً، كانت تشير إلى سقوطها.
داخليّاً، إنّها حكومة التسويات التي لا تحترم التوازنات الطائفية. ولذلك لن تدوم.
إقليميّاً، إنّها حكومة غير مقبولة عربيّاً، بخاصة من المملكة العربية السعودية. لذلك لم يزُر سفيرها في لبنان وزير الخارجية، ولا فعل أي سفير من دول مجلس التعاون الخليجي. ولذلك ترفض السعودية الحوار معها لحلّ أزمة تصريحات الوزير قرداحي.
دوليّاً، إنّها حكومة دفعت بها باريس بعدما أقنعت واشنطن بضرورتها. قبلت هذه الأخيرة لمنع سقوط لبنان كلّيّاً وتحوّله دولةً فاشلةً، وهو ما يمكن أن يشكّل خطراً على حدود إسرائيل الشمالية.
نوعيّة بعض الوزراء، ونشدّد على كلمة بعض وليس الكلّ، هي أيضاً مشكلة لهذه الحكومة. وهنا أيضاً نقول للّبنانيين: المسألة ليست مسألة حظّ. فلكلّ وزير تاريخه وانتماؤه السياسي. و”المكتوب يُقرأ من عنوانه”، على ما يقول المثل اللبناني. و”العنوان السياسي” لجورج قرداحي معروف. فهو يعتبر بشار الأسد رجل العام 2018. والسيّد حسن نصرالله “رجل كلّ الأعوام”. مَن سمع تلك التصاريح أفلا يتوقّع منه ما قاله عن حرب اليمن وعن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات؟
المعركة مع إيران
القرداحي اليوم تفصيل في الأزمة. المملكة السعودية ذهبت مباشرة إلى قلب الأزمة الفعليّة، وهي “هيمنة وكلاء إيران” على لبنان، بحسب تعبير وزير خارجيّتها. وهو على حقّ. الحاكم الفعليّ اليوم في لبنان هو حزب الله الذي أسّسته إيران منذ أربعة عقود، ولا تزال حتى اليوم ترعاه وتموِّله وتسلِّحه. وفي المقابل هو يخدم سياستها ويشارك في صراعاتها وفي حروبها الإقليمية ضدّ السعودية وضدّ مصالح العديد من الدول العربية. فكيف لهذه أن تقبل بهذا الوضع وأن يُطلَب منها مساعدة لبنان للخروج من أزمته؟ إحكام الحزب قبضته على مفاصل الحياة السياسية في البلاد لا يعود إلى فائض قوّته العسكرية فقط، إنّما أيضاً إلى ضعف الفريق الخصم وإخفاقاته.
اليوم نحن أمام زلزال أكبر من زلزال اغتيال رفيق الحريري. إنّه خطف وطن واغتيال دولة. لذلك المطلوب جبهة سياسية عريضة عابرة للطوائف والأحزاب تُوازن قوّة حزب الله العسكرية لإنقاذ لبنان
كيف؟
1- انفراط عقد فريق 14 آذار: بعد اغتيال رفيق الحريري، شكّلت 14 آذار جبهة سياسية قويّة لاستعادة السيادة والحريّة والاستقلال. ليس فقط لطرد القوات السوريّة من لبنان، بل ولرفض حالة حزب الله الشاذّة. لم تنجح الاغتيالات بين 2005 و2008 في زعزعتها، لا بل زادتها تماسكاً. لكنّ غزوة بيروت في 7 أيار أخافت بعض أطرافها. لم يتفرّقوا. لكنّهم استسلموا لقوّة الحزب بطريقة أو بأخرى أو سلّموا بها. وكانت فاتحة تراجع تلك الجبهة التي نجحت في بدايتها في إقامة توازن بوجه حزب الله المستقوي بالسلاح الإيراني.
2- الإخفاق في استيعاب ميشال عون ضمن 14 آذار أضعف الفريق السيادي. تلقّف الحزب هذا الشرخ. فدعا عون إلى “تفاهم مار مخايل”، فحصل على غطاء مسيحيّ ووطنيّ كان في حاجة إليه في تلك المرحلة. بعدها استعاد المبادرة وشنّ هجوماً معاكساً ضدّ المطالبين باستراتيجية دفاعية وبنزع سلاحه. وتجدر الإشارة إلى أنّ ميشال عون نفسه، وقبل عودته إلى لبنان، كان قد ساهم في صدور قانون محاسبة سوريا عن الكونغرس الأميركي، والقرار الأمميّ 1559 الذي طالب بـ”حلّ جميع الميليشيات اللبنانية ونزع سلاحها”.
3- أخفقت 14 آذار في تقديم مرشّح لها، قبيل نهاية ولاية رئيس الجمهورية ميشال سليمان، فوجدت نفسها بعد أكثر من سنتين من التعطيل والفراغ في سدّة الرئاسة الأولى أمام واقع اختيار مرشّح من 8 آذار، على ما صرّح سمير جعجع: “سليمان فرنجية أو ميشال عون؟! فتبنّت ترشيح الثاني، وانتخبته”.
4- لم يكتفِ تيار المستقبل والقوات اللبنانية بانفراط عقد تحالفهما، إنّما ذهبا إلى عقد اتّفاقات ثنائية مع التيار الوطني الحرّ. فكانت التسوية الرئاسية بين الحريري وباسيل على رئاسة الحكومة والتعيينات والمحاصصات، وكان اتفاق معراب بين جعجع وعون. فإضافة إلى طيّ صفحة الصراع الدمويّ الأليم، نصّ هذا الاتفاق في الفقرة “ج” على أن “تتوزّع القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر مناصفةً المقاعد الوزارية المخصّصة للطائفة المسيحية”… هذا ولم يطعن سمير جعجع حليفه السابق سعد الحريري بالظهر، إذ نصّت الفقرة “ب” من اتفاق معراب على التعهّد باحترام تمثيل الطائفة السنّيّة تبعاً لقاعدة “تمثيل الأقوياء لطوائفهم”.
إقرأ أيضاً: نحو جبهة وطنية للإنقاذ: الاستقلال الثالث
اليوم نحن أمام زلزال أكبر من زلزال اغتيال رفيق الحريري. إنّه خطف وطن واغتيال دولة. لذلك المطلوب جبهة سياسية عريضة عابرة للطوائف والأحزاب تُوازن قوّة حزب الله العسكرية لإنقاذ لبنان. جبهة سياسية تُعيد التأكيد للمجتمعين العربي والدولي أنّ هناك جدوى من الحوار مع لبنان والتعامل معه. المعارضة الفردية والموسميّة في الانتخابات، وسياسة ربط النزاع، لم ولن تنفعا، لا بل تخدم الحزب. فهي تقدّم مظهراً من مظاهر الديموقراطية الشكلية في البلاد. ومقولة إنّ حزب الله أصبح أكبر من لبنان وأكبر من قدرة الدولة اللبنانية على التعامل معه لا تُعفي الأطراف السياسية الداخلية من القيام بدورها في معارضته سياسيّاً.
في المفاصل التاريخية يكون المطلوب مواقف استثنائية يتّخذها رجال استثنائيّون لا انتحاريّون.
فهل يكون للبنان اليوم مثل هؤلاء الرجال؟!
* أستاذ في الجامعة اللبنانيّة