بدأ البطريرك الراعي حملته للإنقاذ الوطني بثلاثة عناوين: تحرير الشرعية، والحياد الإيجابي، والمؤتمر الدولي من أجل لبنان. وغنيٌّ عن البيان أنّ شرعية الكيان اللبناني ذات ثلاث شُعَب: الشرعية الدستورية التي تعني الميثاق الوطني والدستور، والشرعية العربية التي تعني هويّة لبنان وانتماءه العربي، وأنّه عضوٌ مؤسِّسٌ بجامعة الدول العربية، وتقوم حياته ومعيشة أبنائه على اعتماد نظام المصلحة العربية، والشرعية الدولية التي تعني أنّ لبنان عضوٌ مؤسِّسٌ في الأُمم المتحدة، وهو جزءٌ من النظام العالمي، وقد انحاز مجلس الأمن مراراً لمصلحة لبنان وحماية استقلاله ووحدة أراضيه في مواجهة إسرائيل، وفي مواجهة التغوُّل السوري، وفي مواجهة تغوّل سلاح الميليشيا، وأصدر قراراتٍ بالإجماع لمصلحة لبنان، أهمُّها قديماً القرار رقم 425 بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وأهمّها حديثاً القرارات ذات الأرقام 1559 و1680 و1701 و1757.
هذا التفصيل في ذكر الشرعيّات التي يستند إليها لبنان، واعتبار البطريرك أنّها جميعاً مرتهنة، ودعوة المواطنين اللبنانيين إلى تحريرها من ارتهانات الميليشيا والمافيا، علّته هذا الخروج الفظيع والمشهود على الدستور، والفساد السياسي الهائل الذي أدّى إلى الانهيار المالي والاقتصادي والمعيشي، وعزْل لبنان عن محيطه العربي، والسعي إلى إلحاقه بالمحور الإيراني تارةً، وبالهوية المشرقية تارةً أُخرى.
يدخل لبنان الآن، على وقع نداء البطريرك، في مرحلة ثالثة: الاستيلاء النصراوي والعوني أوّلاً، ثمّ الانهيار والثورة ثانياً، والآن: إمكانات التفعيل السياسي للمعارضة من أجل الإنقاذ الوطني
تسارع هذا المسار، فبدأ بتحالف الجنرال ميشال عون مع الأمين العام لحزب الله عام 2006، وبلغ الذروة في الاستعداء والاستيلاء خلال العهد الحالي بوصول الجنرال عون إلى رئاسة الجمهورية عام 2016، في غلبةٍ مشهودةٍ تفاقمت إلى أن كسرت ظهر لبنان بارتهان شرعيّاته، وتحطيم نظامه المعيشي، والاستيلاء على مرافقه، وضرب نظام الوظيفة العامّة فيه، وتكسير الجهاز القضائي وحكم القانون، واجتثاث علاقاته العربية والدولية، والاستئثار بقرار الحرب والسلم فيه. ودائماً فتِّش عن الحزب المسلّح، هنا، وعن باسيل هناك، وأحياناً فتِّش عنهما معاً كما في مسألة تشكيل الحكومة.
في وجه هذا الواقع السوداويّ قامت ثورةٌ لبنانيةٌ وطنية شاملة للتغيير والإنقاذ، حفلت بالوعود، وأيّدها البطريرك الراعي ومعظم القيادات الدينية، وبعض القيادات السياسية. وعلى الرغم من وقوف الحزب المسلَّح والعونيّين ضدَّ شباب الثورة وتجمّعاتها في سائر المدن والبلدات، واستعمال العنف والاختراق والتآمُر ضد البارزين من الناشطين، فإنّ تراجُع موجاتها المتصاعدة ما حدث إلاّ بعد انفجار المرفأ الهائل، ثمّ انفجار وباء كورونا. لقد أعلن انفجار المرفأ سقوطَ حكومة اللون الواحد التي شكّلها الحزب المسلّح والعونيّون برئاسة الدكتور حسّان دياب. وجاءت المبادرة الفرنسية لتعطي أملاً في إمكان تشكيل حكومة تكنوقراط للإنقاذ. لكنّ الذين شكّلوا حكومة حسّان دياب الفاشلة، وإن لم يستطيعوا أن يمنعوا مجلس النواب في الاستشارات الملزمة من تكليف سعد الحريري، فإنّهم حالوا لأشهرٍ وأشهر دون تشكيل حكومةٍ جديدةٍ لوقف الانهيار، وفكّ العزلة عن لبنان. وهذا كلُّه، ووسط صراخ اللبنانيين ومجاعتهم، انطلقت نداءات البطريرك الراعي لاستنقاذ لبنان وأبنائه باستنقاذ شرعيّاته واستعادة نظامه الذي ضاع في خضمّ راديكاليّات السلاح والفساد وعزل لبنان عن العرب والعالم.
يدخل لبنان الآن، على وقع نداء البطريرك، في مرحلة ثالثة: الاستيلاء النصراوي والعوني أوّلاً، ثمّ الانهيار والثورة ثانياً، والآن: إمكانات التفعيل السياسي للمعارضة من أجل الإنقاذ الوطني.
كلّ الجهات المسيحية والإسلامية أيّدت نداء البطريرك وخطابه التاريخي. لكنّ المعارضين المسيحيين، وهم عديدون، ما دخلوا في عُمق طروحات البطريرك الثلاثة. بعضُهم، بل معظمهم، وضعوا آمالهم (علناً على الأقلّ) في الانتخابات المبكّرة. وجماعات الانتخابات المبكّرة هؤلاء ربطوا حتّى ولاءهم للدستور بإجراء انتخابات على أساس القانون الذي جرت عليه انتخابات العام 2018. وهو قانونٌ أعطى الأكثرية لتحالف نصر الله – عون، وبالطبع يمكن أن يحصل هذا الطرف المعارض أو ذاك على زيادةٍ في المقاعد في الانتخابات العتيدة المقبلة على أساس القانون الهجين. لكنّ المؤكّد أن الصورة العامّة لن تتغيّر. في ظلّ سيطرة السلاح غير الشرعي، الذي يهرّب الكبتاغون السوري واللبناني بالرمّان والملفوف والصبّار، ويستبدل بالبنوك القرض الحسن، وينشر نيترات الأمونيوم ليس في مرفأ بيروت وحسْب، بل وفي أوروبا أيضاً، وفي ظلّ قرع طبول باسيل والسلاح، بماذا تفيد الأكثرية بالمجلس؟ على فرض الحصول عليها، وهو بعيد جداً.
فقد حقّقتها قوى 14 آذار بين 2005 و2018 وفي انتخابيْن متوالييْن (!). وتلك هي الفترة التي استخدمها طرفا السلطة الحالية الرئيسيان في الاستيلاء على كل شيء، بما فيه شنّ حرب على إسرائيل بدون علم الحكومة واحتلال بيروت، والاستمرار في الاغتيالات، وانتخاب عون، وحرب الجرود الأسطورية، وقانون الانتخابات، وسرقة عشرات المليارات من الدولارات من الخزينة العامّة باسم الكهرباء والاتصالات والأشغال والسدود والصحّة، حتّى استقدام ناخبين من الخارج لزيادة أصوات “صديقي جبران” عام 2018.
لقد توصّلنا نحن، في “سيّدة الجبل” و”حركة المبادرة الوطنية” و”التجمع الوطني اللبناني”، إلى وضع برنامجٍ مرحليٍّ للتحرّك الوطني حضرت إعلانَه في نقابة الصحافة شخصياتٌ وحركاتٌ وتجمّعاتٌ كثيرة، ثم توقّف الأمر عند هذا الحدّ
بالطبع ما كان كلّ المعارضين بهذا السقف الواطي المنخفض جداً مقارنةً بالنداء البطريركي الوطني. لكنّ من بين الثوار راديكاليّين يريدون تغيير النظام وإسقاط الدستور. وهكذا، فإنّ جماعة الانتخابات، في الواقع، ليست مع نداء البطريرك، وإن زعمت ذلك علناً. أمّا الثوار فهم ضدّ دستورية البطريرك علناً.
وتبقى في الميدان عدّة جماعات ومجموعات سياسية تعلن أنّها مع دعوة البطريرك، وتقول بالطائف والدستور، وتتمسّك بثوابت الشرعيّات، وتقف ضد الاستيلاء الإيراني المسلَّح على القرار السياسي والمرافق في البلاد. وقد تختلف في ما بينها حول هذه الأولوية أو هذه المسألة الجزئية أو تلك. لكنّ الاختلافات، بحسب الإعلانات، ليست جوهريةً ولا كييرة. أمّا الغريب فهو أنّ هذه المجموعات لا تلتقي ولا تتحالف مسيحياً أو وطنياً، وإذا حدث شيء من ذلك فسُرعان ما ينفضُّ دونما إبداءٍ للأسباب.
إنّ نداء البطريرك ودعوته وأطروحته، كلّ ذلك، يحتاج إلى أداةٍ سياسيةٍ أو جبهةٍ سياسيةٍ تنطلق من بنوده، وتسعى بالتحالف والتعاون بين المجموعات المتوافقة من جهة، وبالمساعي الوطنية على الأرض من جهة ثانية، إلى حراكٍ سياسي ووطني شامل يفكُّ إسار الشرعية ويحرّرها من طريق إحقاق خطوات محدّدة: حكومة إنقاذ من الانهيار، والمضيّ إلى العالم العربي والدولي من أجل المساعدة والحياد، والمؤتمر من أجل لبنان.
أين أهل السنّة من كلّ ذلك؟
هم الفئة (وليس الطائفة) الوحيدة التي لا تختلف مع نداء البطريرك في أيّ شيء. وقد مضت إلى البطريرك وأيّدته شخصيّاتٌ سنّية سياسيةٌ وحركاتٌ وجهاتٌ على مختلف المستويات. لكنّ بعض الأصدقاء يطالبون بأن يبادر ناشطون سنّيون إلى قيادة التحرّك الوطني للتغيير والإنقاذ. والذي أراه أنّ التحالف الوطني بين المجموعات، التي تقول بالثوابت وبنداء البطريرك، يمثِّل الصيغة الأصلح والأقدر من دون قائدٍ ولا مقود. لقد توصّلنا نحن، في “سيّدة الجبل” و”حركة المبادرة الوطنية” و”التجمع الوطني اللبناني”، إلى وضع برنامجٍ مرحليٍّ للتحرّك الوطني حضرت إعلانَه في نقابة الصحافة شخصياتٌ وحركاتٌ وتجمّعاتٌ كثيرة، ثم توقّف الأمر عند هذا الحدّ.
إنّ لدينا الآن دعوةً سياسيةً وطنيةً جديدةً أعلنها الأستاذ نهاد المشنوق تحت عنوان: “حركة الاستقلال الثالث”. وهي تقول بالثوابت، وبنداء البطريرك، وبتحرير لبنان من الاحتلال السياسي الإيراني، وتدعو لتحالفٍ وطنيٍ كبير لتحقيق تلك الأهداف بين أهل الثوابت الوطنية حركاتٍ وشخصيات.
إنّني أرى في هذه المبادرة الجديدة مصلحةً وطنيةً كبرى، بعدما ظهر الجمود لدى الجهات السياسية المعارضة، إمّا بتكرار خطاب يتضمّن إدانات للواقع ووضع البيض كلِّه في سَلّة الانتخابات، وإمّا بإحداث انقلاب راديكالي على الطائف والدستور مع العمل، بالفعل سرّاً وعلناً، لدى أهل التركيبة الحالية، وإمّا بالدعوة إلى استيلاء الجيش على السلطة.
إقرأ ايضاً: مبادرة البطريرك: أوّلاً ودائماً… لماذا؟
تبدو المصلحة الوطنية في الاستجابة لدعوة “حركة الاستقلال الثالث” من جانب الوطنيين، لتجاوُز القصور، وجمع الصفوف، والتوافق على برنامج سياسي يعمل عليه كلّ فريق بقدر ما يطيق ويستطيع اشتراكاً وانفراداً.
فلنخرج من الشخصنة والشرذمة ودعاوى الاستقامة والطهوريّة، فالقضية الوطنية أكبر من ذلك كلّه وأهمّ، ولن ننجح منفردين، لكنّ الأمل كبير في أن ننجح في استعادة الاستقلال والحرية والعيش الكريم إذا كنّا مجتمعين.