الحلف السرّيّ بين أميركا والحوثي

مدة القراءة 6 د

يريد “لبنان الكبير” إعلان الحرب على المملكة العربيّة السعوديّة من بوّابة تأييد الحوثيّين الذين يُطلقون مسيّراتهم وصواريخهم باتّجاه المدن والمنشآت السعوديّة، وتحت ذريعة حريّة التعبير، وتمسّكاً بسيادة البلاد وكرامتها الوطنيّة.

هذه هي المعادلة الحقيقيّة من دون مواربة ولا تمييع.

معلومٌ منذ بدء الأزمة في سوريا موقف وزير الإعلام جورج قرداحي، المؤيّد لنظام بشّار الأسد، لأسباب واضحة. فما علاقته حتّى قبل أن يصبح وزيراً بحرب اليمن؟ ولِمَ يؤيّد الحوثيّين؟ وما علاقة هؤلاء بلبنان؟ وهل كان يدرك تعقيدات المشهد اليمنيّ قبل أن يدلو بموقفه؟ فهل مأرب تحاذي جبال القلمون؟ وهل يقاتل الحوثيّون أيضاً دفاعاً عن الأقليّات في المنطقة وعن المسيحيّين في لبنان؟ ولِمَ انتقال الغلبة في تلك المدينة البائسة المحاصَرة بالنار والموت من طرف إلى آخر، مؤدّاه عند الحزب وأنصاره وكأنّه انتقال لبنان كلّه قسراً من محور إلى آخر؟ ولماذا يُزجّ لبنان المُنهَك بحسابات جيوسياسيّة غامضة لا يدركها أحد في هذا الوطن الغارق في أتعس لحظاته الوجوديّة؟

على الرغم من الانقلاب العسكريّ على الشرعيّة، ورفض الولايات المتحدة لمُخرجات الانقلاب، إلا أنّ واشنطن التي يلعنها الحوثيّون في كلّ مناسبة، راهنت عليهم كورقة من أوراق الصراع مع تنظيم القاعدة في اليمن

أسئلة كثيرة لن يجد لبنانيّ واحد جواباً شافياً عنها.

لبنان دولة مفلسة، ليس فقط بسبب الفساد السياسيّ والإداريّ وما أفظعه، ولا لأنّ الدولة فقيرة غير نفطيّة حتى الآن، فما إن فاحت رائحة النفط تحت البحر توهّماً حتى اشتدّ الإنفاق الحكوميّ ولمّا يخرج البرميل الأوّل، ولا لأنّ اللبنانيّين ومنذ الاستقلال يستهلكون أكثر ممّا يُنتجون، يستوردون أكثر ممّا يصدّرون، بل على نحوٍ خاصّ لأنّ كثيراً منهم عمل طوال عقود أقلّ مّما يجب، وقبض بالليرة المدعومة زوراً بودائع الدولار أكثر ممّا يستحقّ. بلد يعاني من اختلالات بنيويّة مزمنة، ومن عادات استهلاكيّة مجحفة، يريد أن يتعاظم ويتفاخر على دول كبرى في المنطقة، وأن يتدخّل في شؤونها الداخليّة، وأن يهدّد أمنها القوميّ من دون أيّ عواقب ولا أيّ نتائج. ثمّ يأتي مَن يرفع شارات النصر فوق الخرائب، ويبشّر بمزيد منها. ومن أجل مَن؟ ولأيّ قضيّة؟

 

الحوثيّون والموقف الأميركيّ الملتبس

“الله أكبر. الموت لأمريكا. الموت لإسرائيل. اللعنة على اليهود. النصر للإسلام”. تحت هذا الشعار نشأ منتدى “الشباب المؤمن” في محافظة صعدة في أقصى الشمال اليمنيّ بعد عام الوحدة عام 1990. وهذا الشعار حوّل حركة دينيّة شيعيّة زيديّة إحيائيّة ابتداء من عام 1994، زمن إعادة دمج الجنوب بالقوّة، إلى حركة سياسيّة وميليشيا مسلّحة تحت اسم “أنصار الله”. ومن معاقلها في جبال مرّان في صعدة، خاضت أعنف ستّ حروب مع الجيش اليمنيّ بين عاميْ 2004 و2010 في عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح (قتله الحوثيّون عام 2017)، باعتبار أنّ النظام عميل لواشنطن، موالٍ للرياض. لكن حين اندلعت ثورة الشباب في سياق ثورات الربيع العربيّ المدعوم من واشنطن، تنفّست الحركة الصعداء، ونزلت من الجبال إلى صنعاء، كطرف سياسيّ مشارك في الحوار الوطنيّ، وفي سنِّ دستور جديد، وانتخاب نائب صالح، عبد ربّه منصور هادي، رئيساً للجمهوريّة عام 2012. لكن بدلاً من تعزيز الديموقراطيّة الناشئة، تحالف الحوثيّون مع عدوّهم اللدود السابق علي عبد الله صالح، وانقلبوا على الرئيس هادي عام 2015، بعدما وقّعوا معه على اتفاق السلم والشراكة الوطنيّة لتقاسم السلطة، مُجبِرين إيّاه على الاستقالة، زاحفين من الشمال، مجتاحين المحافظات تباعاً، معلنين قيام سلطة ثوريّة، وواضعين أيديهم على مقدّرات الدولة ومعسكرات الجيش ومخازنه، وكلّ ما فيها من أسلحة ثقيلة، ومنها أسلحة أميركيّة حديثة.

بلد يعاني من اختلالات بنيويّة مزمنة، ومن عادات استهلاكيّة مجحفة، يريد أن يتعاظم ويتفاخر على دول كبرى في المنطقة، وأن يتدخّل في شؤونها الداخليّة، وأن يهدّد أمنها القوميّ من دون أيّ عواقب ولا أيّ نتائج

رهان أميركي على الحوثيين

وعلى الرغم من الانقلاب العسكريّ على الشرعيّة، ورفض الولايات المتحدة لمُخرجات الانقلاب، إلا أنّ واشنطن التي يلعنها الحوثيّون في كلّ مناسبة، راهنت عليهم كورقة من أوراق الصراع مع تنظيم القاعدة في اليمن. وتكشف برقيّتان دبلوماسيّتان أميركيّتان صادرتان في تشرين الثاني وكانون الأول من عام 2009 عبر السفير الأميركيّ في صنعاء ستيفن سيش (Stephen Seche)، سرّبها موقع Wikileaks، أنّ تقدير الموقف الأميركيّ للحوثيّين ليس سلبيّاً بالمطلق، مع نفي اتّهامات الحكومة اليمنيّة لهم بتلقّي السلاح من إيران. بل إنّ السلاح يشترونه من السوق السوداء، ومن أفراد الجيش اليمنيّ، بحسب المصادر التي اعتمدت عليها السفارة الأميركيّة.

ومع تمدّد الحوثيّين السريع نحو عدن ومحاولة السيطرة على محافظة مأرب الاستراتيجيّة قبل ستّ سنوات تحت عنوان مقاتلة الإرهاب (أي المجموعات السنّيّة المتطرّفة)، نشرت “نيويورك تايمز” في 24 كانون الثاني من عام 2015 تقريراً مثيراً يرسم صورة مغايرة لحركة أنصار الله، على الرغم من الشعار المعروف بعدائه للولايات المتحدة. فالشعار شيء ومنطق المصالح شيء آخر. وينقل التقرير عن خبراء أميركيّين قولهم إنّه من السابق لأوانه اعتبار الحوثيّين، حزب الله اليمن، حتى لو تلقّوا العون الماليّ من طهران. بل بالإمكان إيجاد أرضيّة مشتركة بين الولايات المتحدة والحوثيّين ضدّ عدوّ مشترك (القاعدة وداعش)، والتواصل معهم، وهو ما جرى بأكثر من شكل. فـ”أنصار الله”، بحسب ذلك المقال: “مجموعة محلّيّة تبدو عليها ملامح الاعتدال”.

المفارقة أنّ الحوثيّين كانوا على وشك السيطرة على عدن في زمن كتابة المقال، قبل شهرين من إعلان السعوديّة بدء عمليّة “عاصفة الحزم” في 26 آذار من عام 2015. وبخلاف التفاؤل الأميركيّ الخادع، صدر تقرير أمميّ سرّيّ في أيّار من ذلك العام، يؤكّد أنّ إيران دأبت منذ عام 2009، في الأقلّ، على شحن الأسلحة إلى الحوثيّين. فهل كانت واشنطن واستخباراتها غافلة أم متواطئة؟ بل لم يوضع الحوثيّون على لائحة الإرهاب من جانب الإدارة الأميركيّة إلا في أواخر ولاية دونالد ترامب عام 2020، وكان هذا من أوّل القرارات التي تراجع عنها الرئيس الديموقراطيّ جو بايدن، ثمّ أوقف دعم العمليّات الهجوميّة للتحالف في اليمن. ومن ذلك الوقت، اشتدّت الهجمات الحوثيّة المستطيرة على مأرب، بأنساق بشريّة متتاليّة، من أجل حسم المعركة، والحرب كلّها.

إقرأ أيضاً: حول علاقات لبنان العربيّة

هي حركة دينيّة مذهبيّة تطرد المخالفين لها من أهل السُنّة شمالاً، وتعتدي على محافظات الجنوب ذات الأغلبيّة السنّيّة، في محاولة السيطرة عليها، ولولا التدخّل السعوديّ مع دول التحالف، لكانت الأغلبيّة السنّيّة في موقف مجهول، فضلاً عن تهديد أمن المملكة، وأمن الممرّات البحريّة الحيويّة لتصدير النفط.

فكيف يكون الحوثيّون بعد كلّ هذا، في موقع الدفاع عن النفس؟ وما هو الرأي السديد لبنانيّاً بإزاء قضيّة معقّدة. ألم يكن النأي بالنفس هو أجدى وأجدر؟

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…