لم تكن إطلالة رئيس الجمهورية ميشال عون على مشارف نهاية عامه الخامس، وهو العام ما قبل الأخير في قصر بعبدا، على قدر ما سبقها من توقّعات. أحد هذه التوقّعات أنّ الرئيس عون لن يكون أقلّ غضباً من رئيس تيّاره السياسي النائب جبران باسيل الذي صبّ جام انتقاده على الثنائي الشيعي بعد خيبة الطعن بقانون الانتخابات أمام المجلس الدستوري. لكنّ عون خيّب مَن اعتقد ذلك، وبدا كأنّه، بعد صهره الغاضب، حليف هادئ. وهذا ما جعل “حزب الله” يندفع إلى التعبير عن مشاعر الرضا عن حليفه، فاعتبرت مصادره أنّ “كلمة عون مقبولة جداً وضمن الحدود”، على ما جاء في جريدة “الأخبار” صباح أمس.
على غرار خطوط نقل الكهرباء التي تنقسم إلى “خط حامٍ وخط بارد”، هكذا بدا “التيار الوطني الحر” بين رئيسه ومؤسّسه. ومن نماذج “الخطّ البارد” ما قاله عون في كلمته المتلفزة الأخيرة التي بدأت بعبارة “أعزّائي اللبنانيّات واللبنانيّين”، بدلاً من عبارة الزمن الهائج “يا شعب لبنان العظيم”. وهي العبارة التي جعلت أسارير الأمين العام للحزب حسن نصرالله تنفرج. فقد قال عون إنّ “الدفاع عن الوطن يتطلّب تعاوناً بين الجيش والشعب والمقاومة”. إنّها الثلاثية التي أكّد عون أنّه لن يحيد عنها، وهي في الوقت نفسه قدس أقداس “حزب الله” ويعتبرها صكّ بقاء سلاحه من غير أن تمسّه أيّة قرارات دولية أو داخلية.
ما قاله عون في كلمته الأخيرة هو القراءة مجدّداً في ورقة “التفاهم”، إذ دعا إلى “حوار وطني عاجل من أجل التفاهم على ثلاث مسائل
نعترف بأنّ عبارة “الثلاثية” قد جرى إخراجها من سياق 1199 كلمة بالتمام والكمال وردت في إطلالة رئيس الجمهورية. لكن مهما قيل في هذا الاجتزاء، فإنّه لا يلغي أنّها كانت عبارة كاملة الأوصاف لا يشوبها اختزال أو اجتزاء.
وما زالت للقصّة تتمّة.
فغداة تصعيد باسيل، كانت أوساط إعلامية تقول إنّ “حزب الله” لن يدخل على سكّة الوقوف على خاطر حليفه، إلا إذا لمس أنّ “التيار” الحليف سيجنح إلى التهدئة. وبعد نبأ الزيارة التي قام بها الحاج وفيق صفا لباسيل في منزل الأخير الأحد الماضي، الذي تأرجح بين التأكيد والنفي، جاءت إطلالة تلفزيونية عبر قناة “المنار” لأحد المحلّلين قبل ساعات من الكلمة الرئاسية. وما كانت لإطلالة هذا المحلّل لتسترعي الانتباه لو لم يكن الأخير ضيفاً لا يغيب عن شاشتيْ “المنار” و”otv”، أي قناتيْ “حزب الله” والتيار الوطني الحر.
يقول الدكتور جيرار ديب، خلال استضافته في برنامج “مع الحدث” على شاشة “المنار” قبل ظهر الإثنين، إنّ “كلمة الرئيس عون”، التي قالها الأخير بعد ساعات من المقابلة، “إضافة إلى كلمة الوزير باسيل”، التي سيقولها الإثنين المقبل، ستتضمّنان الآتي: “ممنوع منعاً باتّاً المسّ باتفاقية مار مخايل شو ما كان من الخلافات… أمّا أن تطلع أصوات تنادي بفكّ الارتباط، فذلك لا ينعكس سلباً على الحزب، بل سينعكس سلباً على التيار”.
وهكذا تحقّقت “نبوءة” المحلّل في ما قاله عون، ومن المؤكّد أنّها ستتحقّق في كلمة باسيل المقبلة.
“آخر يوم في حياتي”
بالعودة إلى ما سُمّي “ورقة التفاهم”، التي وقّعها في 6 شباط 2006 كلّ من نصرالله وعون (كان في ذلك الوقت رئيساً لـ”التيار”)، توجد فيها فقرة حملت عنوان “حماية لبنان وصيانة استقلاله وسيادته”. وجاء فيها: “إنّ سلاح حزب الله يجب أن يأتي من ضمن مقاربة شاملة تقع بين حدّين: الحدّ الأول هو الاستناد إلى المبرّرات التي تلقى الإجماع الوطني، والتي تشكّل مكامن القوة للبنان واللبنانيين في الإبقاء على السلاح، والحدّ الآخر هو تحديد الظروف الموضوعية التي تؤدّي إلى انتفاء أسباب ومبرّرات حمله”. أمّا الأسباب والمبرّرات التي تستوجب الإبقاء على هذا السلاح فهي “تحرير مزارع شبعا من الاحتلال الإسرائيلي، تحرير الأسرى اللبنانيين من السجون الإسرائيلية، وحماية لبنان من الأخطار الإسرائيلية من خلال حوار وطني يؤدّي إلى صياغة استراتيجية دفاع وطني يتوافق عليها اللبنانيون وينخرطون فيها عبر تحمّل أعبائها والإفادة من نتائجها”.
الاستراتيجية الدفاعية هي أولويّة ثانية بين ثلاث أولويّات، وعند الله وحده العلم ما إذا كان أيٌّ منها، وليس كلّها، سيتحقّق النظر فيها خلال ما تبقّى من شهور على انتهاء ولاية العهد الحالي
ما قاله عون في كلمته الأخيرة هو القراءة مجدّداً في ورقة “التفاهم”، إذ دعا إلى “حوار وطني عاجل من أجل التفاهم على ثلاث مسائل، والعمل على إقرارها لاحقاً ضمن المؤسسات، وهي: اللامركزية الإدارية والماليّة الموسّعة، الاستراتيجية الدفاعية لحماية لبنان، خطة التعافي المالي والاقتصادي، بما فيها الإصلاحات اللازمة والتوزيع العادل للخسائر”.
إذاً الاستراتيجية الدفاعية هي أولويّة ثانية بين ثلاث أولويّات، وعند الله وحده العلم ما إذا كان أيٌّ منها، وليس كلّها، سيتحقّق النظر فيها خلال ما تبقّى من شهور على انتهاء ولاية العهد الحالي. وهذا مستبعد التحقيق إن لم نقل مستحيل.
إقرأ أيضاً: عون الهارب.. يسعى إلى “حوار” مستحيل
من الآن فصاعداً يجب الانتباه إلى ثلاث أولويّات موازية: أولويّة سلاح “حزب الله”، أولويّة تفاهم عون ونصرالله على بقاء هذا السلاح، وأولويّة عون أن يبقى في قصر بعبدا بعد انتهاء ولايته في نهاية تشرين الأول المقبل.
قال عون عن الأولويّة الثالثة في كلمته الأخيرة: “سأبقى أعمل حتّى آخر يوم من حياتي…”. لا شكّ في أنّ الرجل عازم على التمسّك بمعادلة “القصر أو القبر”.