عون الهارب.. يسعى إلى “حوار” مستحيل

مدة القراءة 6 د

كان بالإمكان أن تُؤخذ دعوة رئيس الجمهورية ميشال عون إلى الحوار على محمل الجدّ لو أنّها أتت في السنة الأولى من عهده. لكنّ هذا كلّ ما تمخّض عنه جبل بعبدا في السنة الأخيرة من “العهد القوي”.

ميشال عون هو من ذلك الصنف الذي ينزع إلى قلب الطاولة كلّما خسر اللعب. سوَّلت له الرُتَبُ على أكتافه فعل ذلك في الثمانينيات، فاعتصم في قصر بعبدا حاكماً عسكرياً. ثمّ بعد خمسة عشر عاماً، سوّل له الالتفاف الشعبي المسيحي حوله في انتخابات عام 2005 الانقلابَ إلى صف الثامن من آذار، ليؤدّي وظيفة الظهير المسيحي لـ”حزب الله” منذ ذلك الحين.

لا شكّ أنّ نفسه تحدّثه بأن يقلب الطاولة مجدّداً. لكنّ خطابه الأخير يكشف وهنه السياسي وحدود قدرته على المبادرة.

في شتاء عمره السياسي، يخوض عون معركتين “دفاعيّتين” للحفاظ على المعقليْن المعادِلَيْن لزعامته ومكانته وتاريخه: الرئاسة، والأغلبيّة المسيحية. ولعلّه يستشعر أنّ مآل المعركتين هو ما سيبقى منه للتاريخ والميراث السياسي. مأزق الرجل أنّ المعركتين ذواتا خصائص مغايرة: في معركة الرئاسة تنتخب الأحزاب، وفي معركة الأغلبية المسيحية الصوت للشارع. ولكي يقلب الطاولة في الشارع لا بدّ أن يُغضب الأحزاب (وبالأخصّ الحزب الأوحد) التي يحتاج إليها في معركة الحفاظ على القصر.

معركة الرئاسة الفائتة اقتضت من التيار العوني حوك تفاهمات وتسويات مستحيلة، من “تفاهم مار مخايل” مع “حزب الله”، إلى “وثيقة معراب” مع “القوات”، والتسوية مع “المستقبل”. وحين أتى موعد الانتخابات النيابية كان هو في ذروة سنام السلطة وإنفاقها ومنافعها وتعييناتها، وكان الجميع معه على طاولة الحكم، ولم يكن لدى “القوات” ما تزايد به على يمينه.

تغيّرت الحال. محاصرٌ ميشال عون في 2022 كما لم يكن في 1990. وهذه المرّة تحاصره حساباته. يحاصره في بيئته القلق من منافسه سمير جعجع، وتمدّد ما تسمّى قوى “المجتمع المدني”، بدعم من العواصم الغربية، وتحاصره في المستوى السياسي الأشمل قيود التحالف مع “حزب الله” التي لا يستطيع منها فكاكاً.

في المعركة داخل بيئته يحتاج ميشال عون إلى خصم “خارجي”. كان هذا الخصم “غولاً” مثالياً اسمه “التحالف الرباعي” في انتخابات 2005، وقد أدّى وظيفته في التخويف الوجودي للناخب المسيحي. ثمّ تركّز التخويف على الغول السنّيّ في انتخابات 2009، مع بعض التذكير بمآسي حرب الجبل للتحريض على وليد جنبلاط في الشوف وبعبدا وعاليه. وفي انتخابات 2018 كان الغول هو “الإرهاب” السنّيّ والنازحين السوريين، مع إيحاء دائم بأنّ في الداخل من يتمسّك ببقائهم لاكتساب تفوّق ديموغرافي (!) في إحالة للذاكرة الجمعية المسيحية إلى الصراع مع الوجود الفلسطيني في السبعينيّات.

في الموسم الانتخابي الراهن، ليس ثمّة وجود لتيار رفيق الحريري في اليوميّات السياسية. زعيمه، سعد الحريري، شبه معتكف في الخارج، ولا أثر عميقاً لتيّاره في أيّ سجال سياسي حول أيٍّ من العناوين أو ملفّات الاشتباك الحكومي والقضائي. والمعارضة السورية مهزومة عسكرياً، ولا وجود لها في السياسة، وبات من الممجوج الحديث عن مشروع سياسي خلف مخيّمات البؤس. لم يعد لدى أهل السنّة في لبنان أو في سوريا ما يصلح أن يكون “غولاً”.

بل الأسوأ من ذلك بالنسبة للتيار العوني أنّ العلاقة مع دول الخليج التي كانت مادّة للسجال (الطائفي) المحلّي منذ عام 2005، لم تعد كذلك. فالأزمة الماليّة والاقتصادية الراهنة أفرزت اقتناعاً وطنياً شاملاً، لا يخرج عنه أيّ طيف، بحاجة لبنان إلى الخليج، أقلّه على صعيد التحويلات الماليّة الواردة والتجارة والسياحة والاستثمار وتوفير فرص العمل لعشرات الآلاف الذين تخرّجهم الجامعات كلّ عام. وحتّى “حزب الله” الذي يحارب السعودية في اليمن، لا يجد ما يهاجم به المملكة إلا اتّهامها “بحصار لبنان”! وفي هذا إقرارٌ ضمنيٌّ بأن ليس في وسع لبنان أن يستغني عن العلاقة معها.

خلافاً للأعوام 2005 و2009 و2018، اليوم، على مشارف 2022، ثمّة اقتناع عارم على المستوى الشعبي المسيحي بحاجة لبنان الماسّة إلى العلاقة بالخليج. تلاشت كلّ الصور النمطية العنصرية التي كان العونيون يروّجونها عن “العربان” و”البدو”، وسقط التخويف الوجودي لمسيحيّي الشرق، ولم تبقَ إلا صور المدن المزدهرة التي توفّر الملاذ الأرحب للّبنانيين الهاربين من الجحيم، من دون أن يُسأَل أحدهم عن دينه.

الحقيقة  السياسية، التي عكسها خطاب عون، هي أنّ العلاقة بالخليج باتت خارج إطار السجال والنقاش في الشارع المسيحي، كما في الشارع اللبناني الأعمّ، وأنّ النقاش كلّه هو حول العلاقة بإيران: هل ينبغي أن يكون في الداخل اللبناني حزبٌ موالٍ لها ومموَّلٌ منها ويتلقّى التكليف منها لخوض الحروب مع دول الخليج، خلافاً للمصلحة اللبنانية الواضحة؟ هل ينبغي للبنان أن يعادي الخليج لأجلها؟ وهل ينبغي لحزب يمينيّ مسيحي أن يعطي الغطاء لهذا الولاء وذاك العداء؟

يُقال لدى أهل الصنعة إنّ ما يحدّد نتائج الانتخابات ليس ما يقوله المرشّحون، بل العناوين التي تستحوذ على اهتمام الجمهور خلال فترة الحملات الانتخابية. ولا شيء يستحوذ على اهتمام الجمهور المسيحي اليوم أكثر من علاقة الولاء والتكليف بين “حزب الله” وإيران، التي هي اليوم في صلب الأزمة السياسية والماليّة والنقدية والاقتصادية. وحتى السجالات في موضوع التعطيل الحكومي، وفكرة التعطيل عموماً، تعود لتصبّ في المصبّ الأكبر، وهو حالة “حزب الله” النافرة في النظام، وقدرته على شلّ المؤسسات.

خطاب عون ليس نذير مواجهة مع “حزب الله”، ولا هو لعب على شفير التفاهم معه، بل ما هو إلا استسلام لضبط الأجندة “الانتخابية” وفق العناوين التي يتسلّح بها خصومه داخل البيئة المسيحية.

أمّا الدعوة إلى الحوار حول العناوين الثلاثة، الاستراتيجية الدفاعية واللامركزية الإدارية الموسّعة وخطّة التعافي الاقتصادي، فما هي بشيء. كيف لرئيس لا يستطيع أن يدعو حليفه إلى مجلس الوزراء أن يجمع أطياف البلد على طاولة صنع نظام جديد؟ لا الوقت المتبقّي للرئيس كافٍ، ولا طاولته مكانٌ صالح لإعادة تصميم النظام.

إقرأ أيضاً: الاستراتيجية الدفاعية: Missed Call من عون للحزب

ليست الدعوة إلى الحوار أكثر من بديل العاجز عن قلب الطاولة. “حزب الله” نفسه لا يأخذها على محمل الجدّ، ولا يرى فيها أكثر من بضاعة تُرمى على قارعة سوق الكلام الانتخابي. والأرجح أنّه سيترك لعون هامشاً لشدّ العصب بها إلى أن يحين وقت الكلام الجدّ الذي يُقال في فيينا أو في بغداد. وحينها فقط يتّضح إن كان للانتخابات النيابية، من أصلها، مجال لتُجرى.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…