مجدّداً تضع الكنيسة المارونية إصبعها في قلب جراح الأزمة المعقّدة التي يمرّ بها لبنان. كلام البطريرك بشارة الراعي في عظة الميلاد تذكير مباشر بأسس الحلّ والأهمّ كلام مباشر عن جذر الأزمة لا عن أعراضها الجانبية.
لبنان يعيش حالاً مقزّزة من الاستبداد السياسي. ولا حلّ خارج إسقاط نظام الاستبداد.
حسناً فعل البطريرك أنّه وفي حمأة المطالب المرتجلة بتعديل أو تغيير أو تطوير النظام السياسي في لبنان كمداخل وهميّة للحلّ، طالب في عظة الميلاد بـ”استعادة نظامنا الديموقراطي لأنّنا نعيش منذ سنوات في حالة اللانظام، ونطالب باسترداد دولتنا لأنّنا نعيش خارج سقفها، وهي تعيش خارج ميثاقيّتها وتخضع لإرادة أحاديّة عمداً على المؤسسات الدستورية حتى تكبيلها وتعطيلها”.
يكاد ردّ بكركي يكون تفنيداً لكلّ بنيان خطاب الاستبداد السياسي، الذي يُعدّ إلى الآن التوصيف الأدقّ لواقع الأزمة اللبنانية
المطالبة باستعادة النظام شيء والمطالبة بتغييره شيء آخر تماماً. ما يقوله البطريرك أنّ أيّ نظام بديل لن يستطيع أن يقلع بالبلاد إذا استمرّت عقليّة التطاول على الدستور حين لا يتوافق الدستور مع أهواء حزبية وفئوية ومذهبية، تُدار دفّتها لصالح قوى خارجية ومن قبل قوى خارجية، كما هو حاصل مع الإدارة الإيرانية لميليشيا حزب الله.
فهذا “الاستبداد السياسي على حساب المشيئة الدستورية” كما جاء في نصّ عظة الميلاد، والذي يُترجم تعطيلاً لمجلس الوزراء بقرار من فريق واحد، ضدّ رغبة حلفاء هذا الفريق وخصومه معاً، ليس من نوع الأزمات التي تُحلّ بتعديلات دستورية. إنّه سلوك ضدّ الدستور، أيّ دستور، لأنّه موقف نابع من شعور حادّ بالخصوصية وفائض القوّة والرغبة الجارفة في كسر كلّ إرادة لا تستقيم مع إرادة “المستبدّ السياسي”.
لنفترض أنّنا نعيش في ظلّ نظام المثالثة. هل كان ذلك سيبثّ الروح في مجلس الوزراء؟ الإجابة الحاسمة كلا. فأصحاب القرار بتعطيل مجلس الوزراء لا يبحثون عن شراكة في القرار بل عن استتباع لبقيّة الأفرقاء لتبنّي ما يقرّرونه هم ووفق رؤيتهم هم.
الأمر هنا يتجاوز مسألة الحريّة كنقيض للاستبداد. فما نحن بإزائه هو مثابرة من فريق “الاستبداد السياسي” لجعل “الناس تعتاد على غياب السلطات الدستورية وسائر مؤسسات النظام بغية خلق لبنان آخر لا يشبه نفسه”. إنّها عمليّة جراحيّة سياسية واجتماعية ونفسيّة لتدمير كلّ ما له صلة بأساس فكرة لبنان كجمهورية تعدّديّة ليبرالية.
أمّا مَن يعملون ليل نهار على مسخ فكرة التوافق وجعلها معبراً لبهدلة الديموقراطية اللبنانية فكان لهم البطريرك بالمرصاد حين حضّ الحكومة على “استئناف جلسات مجلسها كي لا يتحوّل الأمر لسابقة وعرف ويقيّد عمل الحكومات ويرهن مسيرة مجلس الوزراء بموقف فئوي يشكّل خرقاً للدستور ونقضاً لاتفاق الطائف وتشويهاً للميثاق الوطني ومفهوم التوافق”.
يكاد ردّ بكركي يكون تفنيداً لكلّ بنيان خطاب “الاستبداد السياسي”، الذي يُعدّ إلى الآن التوصيف الأدقّ لواقع الأزمة اللبنانية. ولو كنّا نعيش في ظروف طبيعية في لبنان لكانت هذه العظة بمثابة مانيفستو لحركة سياسية عابرة للمناطق والمذاهب، ترسم فيصلاً بين مَن يريدون إنقاذ لبنان وبين مَن يثابرون على هدم كلّ مبانيه ومرتكزاته. ولتحوّلت العظة، من دون مبالغة، إلى منصّة سياسية لخوض الانتخابات المقبلة وفق بنودها بلا زيادة أو نقصان.
لا ينفصل عن هذا السياق تجديد البطريرك الراعي الدعوة لاعتماد مشروع حياد لبنان، الذي يُعدّ السبيل الوحيد كي “يستعيد لبنان توازنه وموقعه في العالم العربي وبين الأمم”. وإنّه لَمِن الشجاعة المفتقدة هذه الأيام أن يعلن غبطته عن تسليم الأمين العامّ للأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش “مذكّرة تتعلّق بمواقفنا (تؤكّد) على ضرورة بلورة حلّ دولي يعكس إرادة اللبنانيين”. ففي خطوته نقلٌ لدعوة التدويل من سياق الموقف السياسي الداخلي إلى فضاء الخطوة العملية، التي تفتح المجال للمزيد من المتابعة والتحشيد والترويج.
لا مشكلة نظام إذاً كما ترى الكنيسة. بل مشكلة اللانظام، التي ينبغي الخروج منها.
ولا أزمة في إدارة التعدّد كما ترى الكنيسة. بل أزمة استبداد سياسي يمارسه فريق ضدّ كلّ اللبنانيين، أكانوا حلفاء أم خصوماً.
ولا خلل في نظام التوافق اللبناني كما ترى الكنيسة. بل تحايل وتزوير ينتحلان صفات التوافق بنيّة تعميم اليأس من مؤسّسات النظام.
إقرأ أيضاً: بكركي تواجه السلاح والإنقسام: انتهاء “العونية” شعبياً
في لحظة شبه التصحّر السياسي، تقدّم الكنيسة المارونية خطاباً سياسياً متماسكاً وخطة شاملة تجمع المحلّي والأممي ضمن رؤية واحدة للحلّ. إنّه المشروع السياسي الوحيد المطروح على اللبنانيين، إذا ما فهموا أنّ أزمتهم المعقّدة هي أزمة سياسية في الأساس وأنّ حلّها سياسي، لا بمعنى الصفقة التي تشرق وتغيب كلّ يوم في دنيا المافيا والميليشيا، بل سياسي بالمعنى النبيل والتأسيسيّ، كما هو دأب كنيسة لبنان.