تعتنق الكثير من أنظمة الشرق الأوسط مبدأ مفاده أنّ أقصر الطرق للحصول على حظوة لدى البيت الأبيض ينطلق من تل أبيب.
وفق هذا المبدأ ازدهرت العلاقات السريّة والعلنية مع إسرائيل، وكثيراً، إن لم يكن دائماً، ما كان معتنقو هذا المبدأ يُصابون بخيبة أمل بفعل الفارق الشاسع بين التوقّعات والأمنيات، وبين المزايا الفعليّة التي يحصلون عليها. إضافة الى تغاضيهم عن حقيقة أنّ للعلاقة مع أميركا، خصوصاً تلك التي تنشأ بفعل التزكية الإسرائيلية، ثمناً باهظاً لا يُدفع لمرّة واحدة فقط. أمّا “الكوميشين” الإسرائيلي فيصل في كثير من الحالات إلى نفوذ مؤثّر في السياسات والقرارات. وحتى حينما حدث ما حدث في السودان، طُلِب من إسرائيل استخدام نفوذها المستجدّ لحلّ الأزمة هناك مع أنّها لم تقدّم شيئاً يُذكر يوازي حجم النفوذ في القرارات.
تعتنق الكثير من أنظمة الشرق الأوسط مبدأ مفاده أنّ أقصر الطرق للحصول على حظوة لدى البيت الأبيض ينطلق من تل أبيب
وإذا كان السودان المثقل بأحمال السياسات الفاشلة والمغامرة، من قبل النظام الديكتاتوري الآفل، برّر توجّهه الجديد نحو إسرائيل بأنّه جاء بفعل الاضطرار الذي تمليه الحاجة، فإنّه وجد نفسه أخيراً في وضع، حتّى الأميركيون أنفسهم لا يقدرون على إخراجه منه. فماذا بوسع أميركا وإسرائيل أن تفعلا إزاء حالة تزدحم فيها المشاكل الداخلية وتتوالد على نحو مستمرّ. كما حين ظهر أنّ المعضلة السودانية ليست اقتصادية وتنموية فحسب حتى تُحَلّ بإلغاء بعض الديون وتوفير بعض التسهيلات المالية والاقتصادية، بقدر ما هي معضلة داخلية مركّبة لم تجد بعد النظام السياسي القادر على التصدّي لها وتقديم حلول ناجعة، إن لم تُنهِها فقد تخفّف من وطأتها.
اشتراطات أميركا وإسرائيل على أيّ كيان يرى فيهما مخرجاً من أزماته هي من النوع الذي لا تقدر عليه هذه الكيانات، لذا تظلّ المعضلات قائمة ومتوالدة، وهذا ما هو مثبت على أرض الواقع.
المثال التركي
ولنترك السودان جانباً لنلقي نظرة على بلد غنيّ ممتلئ بالثروات، ولديه الإمكانات الجدّيّة التي تجعل منه دولة إقليمية عظمى، والمعنيّ هنا تركيا، التي عادت بعد رحلة خلاف دعائي صاخب مع إسرائيل إلى خطب ودّها، والإشادة بمستوى العلاقات معها وحتميّة تطوّرها وأهميّتها في الاستقرار الإقليمي.
هذا الاكتشاف التركي الحالي لأهميّة العلاقة مع إسرائيل لا يخلو من رهان على دورها في ترطيب العلاقة مع أميركا. ولو نظرنا إلى الوضع الداخلي التركي حين تأزّمت الأمور مع إسرائيل من دون أن تنقطع العلاقات الأساسية معها، فقد كان في أفضل حالاته إذا ما نُظِر إلى الأمر من زاوية قوّة نفوذ حزب “العدالة والتنمية” وإردوغان بالذات.
أمّا الآن وقد تراجع وضع الحزب والرجل في البلاد، وهما على موعد مع انتخابات حاسمة ستأتي من دون أن تحلّ المعضلات الاقتصادية والماليّة والتحالفية. فالرئيس إردوغان، وقد سعى أخيراً إلى ترطيب العلاقات مع الجوار، وربّما يعود إلى نظرية “أوغلو الأوّل” القائمة على “صفر أزمات” مع الجميع… يرى في إسرائيل وأميركا مزايا يعمل على اقتناصها، لعلّها تنفع في تحسين الأوضاع أو بالأحرى تحسين وضعه ووضع حزبه في الانتخابات القادمة.
إقرأ أيضاً: أميركا – إسرائيل: ضوء أصفر لضرب إيران؟
عودةً إلى أصل الحكاية، أي أميركا والوسيط الإسرائيلي: فإنّ حجم أيّ كيان عند أميركا بالذات تحدّده قوة هذا الكيان ومتانة وضعه الداخلي وحجم خدماته أو إعاقته للسياسات الأميركية الكونية. ولو جرى إدراك هذه المعادلة في البلد الأفقر، وهو السودان، والبلد الأغنى، وهو تركيا، لَما شهدنا تخبّطاً في السياسات والخيارات الداخلية والخارجية. ولَما رأينا في تركيا بالذات ابتعاداً لفترة طويلة عن مبدأ “صفر أزمات” والذهاب إلى عكسه تماماً.
في وقت متأخّر بدأت تركيا إردوغان تحاول العودة إلى هذا المسار، لكن هل لديها الوقت الكافي لأن تسلكه قبل الانتخابات المقبلة؟