ينشر “أساس” مقتطفات من كتاب “الملف الأفغاني” لمؤلّفه رئيس الاستخبارات العامّة السّعوديّة السّابق الأمير تركي الفيصل آل سعود على حلقات، بعدما أذِنَ مؤلّفه بذلك.
تحكي الحلقة السّابعة والأخيرة عن التحوّل الكبير في عمل أسامة بن لادن، الذي نقل نشاطاته عبر الحدود ليصير إرهابيّاً عالميّاً. وتتناول الحلقة أيضاً الخطوات التي اتّخذتها القيادة السّعوديّة للحدّ من نشاطاته وعمليّاته الإرهابيّة وتفاصيل اللقاءات بهذا الشأن مع الرّئيس السّوداني الأسبق عُمر البشير وأمير حركة طالِبان المُلّا عُمر.
الحلقة السّابعة:
وجدتُ في أثناء التسعينيّات أنّ انشغالي بمُشكلة أسامة بن لادن يزداد تدريجيّاً.
كان أُسامة إحدى الشّخصيّات التي اجتمَعت في بيشاور وقت سقوط حكم نجيب الله في 1992. ولم ألتقِه، ولم يكُن له دورٌ في العمل الدّبلوماسي الذي أدّى إلى تشكيل حكومة صبغت الله مُجدّدي، لكنّه التقى هناك حسن التّرابي، المنظّر الأيديولوجي للحكومة التي اعتلت سدّة الحكم في السّودان في 1989. وهذا ما أدّى إلى مرحلة جديدة في مسيرة أسامة.
كان الحُكمُ السّودانيّ نظاماً عسكريّاً يرأسه الفريق عُمر البشير، لكنّ حسن التّرابي، أحد قياديي الإخوان المُسلمين، منحه قشرةً من الإسلام الأصوليّ. أراد التُّرابي نشرَ الثّورة الإسلاميّة، وقد رأى في أُسامة شخصاً يُمكن ربطه بالقضيّة، لأسباب لا تقتصر على كونه غنيّاً فقط. فدعاه إلى الخرطوم وقَبِلَ. لينطلَق أُسامة على الفور إلى الخرطوم في طائرةٍ أعاره إيّاها رجل أعمالٍ سعوديّ ثريّ، وبرفقته عدد كبير من العرب الذين استوطنوا الحدود الأفغانيّة.
احتفى النّظام بأسامة في السّودان، ومُدِحَ بأنّه “مُجاهدٌ حقيقيٌّ”. اشترى بيتاً كبيراً في الخرطوم ومزرعة في شمالها وتبرّع بمبلغٍ من المال لمشروع شقّ طريق جديد. كان الأصل أنّ الطّريق سيُموّل بمعونةٍ حكوميّة سعوديّة، لكن عندما دعمَت الحكومة السّودانيّة صدّام حسين في غزو الكويت، عُلِّقَت المعونة. وفي الوقت نفسه، تمكّن التُّرابيّ من بيع أُسامة مصنعاً حكوميّاً لدباغة الجلود، وبدا لنا في الرّياض أنّ الحكومة السّودانيّة تستغلّّه.
أصدَرَ أُسامة في نهاية 1993 أوّل بيانٍ يُهاجم فيه السّعوديّة، وسمّاه “البيان رقم 1″، وأعلن فيه معارضته لدعوة المملكة القوّات الأميركيّة إلى المُساعدة في الدّفاع سنة 1990. كان يُوزّع بياناته عبر لندن. كان له هناك مكتبٌ صغير يُديره وكيله خالد الفوّاز، إذ كان يُرسل البيان إلى الفوّاز، ثمّ يُمرّره الأخير إلى عددٍ من المُستقبلين في السّعوديّة عبر الفاكس. صادفت هذه المُبادرة تأسيس لجنة الدّفاع عن الحقوق الشّرعيّة (CDLR) في لندن، التي تُمثّل رؤى اثنين من المُنشقّين السّعوديين: محمّد المسعري وسعد الفقيه. ساعدَ الفوّاز الرّجليْن على تأسيس عملهما، وعلّمهما كيف يستخدمان الإرسال المُتعدّد بالفاكس. ولردّ الجميل، اشترى سعد الفقيه لأسامة هاتفاً مُتّصلاً بالقمر الصّناعي. كانت الموادّ التي تُرسلها اللجنة عبارة عن قصص الفساد والفضائح، القديمة في الغالب، وسرعان ما أصبحت مُكرّرة وملّها مُستقبلوها في السّعوديّة، وبالطّبع أغضبت الحكومة السّعوديّة.
وجّهت الحكومة السّعوديّة سفيرها بالخرطوم إلى الاتصال بأُسامة ومُطالبته بوقف ما يفعله، تحت طائلة اتخاذ إجراءات قانونيّة ضدّه، وإن توقّف وعاد إلى المملكة فسيُعفى عن كلّ ما فعل. وأرسل آل بن لادن عدداً من أبنائهم للتّحدّث مع أسامة، منهم عمّه وأختاه وأُمّه، لكنّه كان شديد العناد. وهُنا أدركت مدى الجرح الذي أصابه عندما رفضنا مُقترحه في 1990 في الاجتماعات التي جمعته فيها بالأميريْن أحمد بن عبد العزيز، نائب وزير الدّاخليّة، والأمير سُلطان بن عبد العزيز، وزير الدّفاع. (حين عرض تحرير الكويت، بالجهاديين، بدلاً من الاستعانة بالأميركيين بعدما احتلّها صدّام حسين).
في النّهاية، قرّرَ آل بن لادن في آذار 1994 التّبرّؤ علناً من أسامة بنشر بيانات في الجرائد تقول إنّه لم يعد من آل بن لادن. وأسقطت الحكومة الجنسيّة عنه بأمرٍ ملكيّ، وجُمِّدَت حساباته وصودِرَت مُمتلكاته وبيعَت. وخرَجَ العديد من التّقديرات حول المبالغ التي ربّما تمكّن من تحويلها إلى خارج المملكة قبل القرارات، لكنّها مُبالغٌ فيها، وتقديري أنّها لا يُمكن أن تتجاوز خمسين مليون دولار…
في شباط 1996، سحبت أميركا بعثتها الدّبلوماسيّة من الخرطوم نظراً إلى التّهديدات التي تطول الشّخصيّات الأميركيّة، ولعدم وجود ردّ حكوميّ على المُطالبات الأميركيّة بالحماية.
كان أُسامة إحدى الشّخصيّات التي اجتمَعت في بيشاور وقت سقوط حكم نجيب الله في 1992. ولم ألتقِه، ولم يكُن له دورٌ في العمل الدّبلوماسي الذي أدّى إلى تشكيل حكومة صبغت الله مُجدّدي
السودان وأميركا ترفضان محاكمة بن لادن
وفي آذار وصل الرّئيس عُمر البشير إلى السّعوديّة للحجّ، وطلب لقاء وليّ العهد ساعتها الأمير عبدالله بن عبد العزيز لاستكمال الاتصالات الدّبلوماسيّة القائمة منذ شهور. شرَح لوليّ العهد أنّه يريد تسليم أُسامة، لكن عندما سأله الأمير “متى؟”، قال إنّه يريد ضماناً بعدم مُحاكمة أُسامة، فأُسامة شجّع وموّل عمليّات إرهابيّة، وحاول إسقاط الحكومة السّعوديّة، وذلك ما قاله الأمير عبدالله، وختمَ حواره مع البشير بقوله: “ما مِن أحد فوقَ الشّريعة”، وهنا انتهى اللقاء. عادَ البشير إلى السّودان، وبدا أنّ أُسامة طُلِبَ منه المُغادرة.
ومن المُثير أنّ السّودانيين عرضوا أيضاً تسليم بن لادن على الأميركيين، لكنّهم رفضوا العرض، إذ زعموا أنّه لا يوجد ساعتها ما يكفي من الأدِلّة لمُحاكمته.
في أيار 1996، اُستُؤجِرَت طائرة نفّاثة من الخطوط الأفغانيّة، ونُقِلَ أُسامة وزوجاته الثّلاث وأبناؤه وأتباعه إلى موطنه الجديد في جلال آباد، على رحلتيْن.
وفورَ استقراره لم يُضيّع وقتاً. أطلق في آب بياناً طويلاً سمّاه “إعلان الجهاد على الأميركيين المُحتلّين لبلاد الحرميْن”. وناقشَ البيان كيف أنّ تحالف أعدائه قد “ألجأه إلى المنفى”، وكيفَ أنّ الحكومة السّعوديّة أصبحَت ما سمّاه “وكيلاً لليهود والنّصارى والمُستعمرين”.
بعد ذلك بقليل، سقطت جلال آباد في يد طالبان في أيلول، وتولّت طالبان ملفّ أُسامة ورفقاه، مع مُمتلكاتهم. وأرسل النّظام الجديد رسالة للحكومة السّعوديّة تقول إنّها “وَرِثَت” بن لادن، بهذه العبارة نفسها، و”منحته اللجوء”، ولم تعرض تسليمه. رددنا أنّهم يُمكنهم الإبقاء عليه، لكنّنا ننتظر إيقافه عن إصدار بيانات مُعادية للسّعوديّة، وهو ما تعهّدت طالِبان بفعله، لكن سُرعان ما بدا أنّ وُعودَها كانت غير ذات قيمة. في ذلك الخريف، خرجَ بن لادن في أوّل مؤتمر صحافيّ، ثمّ في حوار تلفزيونيّ مُطوّل مع شبكة أميركيّة. وفي كلتا الحالتيْن أبلغنا احتجاجنا لطالِبان، وفي المرّتيْن أخبرونا أنّها لن تتكرّر. تولّد عندنا انطباع أنّ بن لادن على علاقاتٍ طيّبة مع طالِبان، وهو ما تأكّد عندما انتقل كُلّ رفاقه إلى قندهار.
في شباط 1996، سحبت أميركا بعثتها الدّبلوماسيّة من الخرطوم نظراً إلى التّهديدات التي تطول الشّخصيّات الأميركيّة، ولعدم وجود ردّ حكوميّ على المُطالبات الأميركيّة بالحماية
إعلان الجهاد ضدّ أميركا
في شباط 1998، أصدَرَ بن لادن أطول بياناته في إطار “الجبهة الإسلاميّة العالميّة لجهاد اليهود والصّليبيّين”، وقال: “منذ ما يربو على سبع سنين وأميركا تحتلّ أراضي الإسلام في أقدس بقاعها، وتنهب خيراتها، وتُملي على حُكّامها، وتذلّ أهلها، وتجعل من قواعدها رأس حربة تُقاتل شعوب الإسلام المُجاورة”. وانتهى بما زعم أنّه فتوى قال فيها مُوقّعوه: “إنّ حكم قتل الأميركيين وحلفائهم المدنيين والعسكريين فرض عيْنٍ على كلّ مُسلمٍ أمكنه ذلك في كلّ بلدٍ تيسّر فيه”. وأُرسِلَ البيان والفتوى إلى إحدى الجرائد العربيّة في لندن، وبُثّا عبر شبكة “الجزيرة”.
ردّ الأميركيون في آذار بإرسال مندوبهم لدى الأُمم المُتّحدة بيل ريتشاردسون إلى كابول بصحبة سفيرهم في إسلام آباد. التقى الاثنان المُتحدّث باسم طالِبان محمّد ربّاني، وناقشا الفتوى معه. استمع ربّاني ومَن معه من قادة طالِبان، لكن لم يقطعوا على أنفسهم أيّ التزام، واكتفوا بالتّأكيد أنّ بن لادن ليْسَ من عُلماء المُسلمين المُؤهّلين.
كان الخبر الجيّد الوحيد الذي تلقّيناه يومها أنّ طالِبان سحبت من أُسامة هاتفه المُتّصل بالقمر الصّناعيّ، واستبدلت بحرسه على بيته حرساً من عندهم.
تقرّرَ في حوارٍ بيني وبين الأمير عبدالله بن عبد العزيز أنّ زيارتي لقندهار قد تُفيد. رتّبت لزيارة في حزيران، وسافرت بصحبة الشّيخ عبدالله التّركي الذي أُعفيَ من منصبه وزيراً للشّؤون الإسلاميّة، وكان ساعتها أميناً عامّاً لرابطة العالم الإسلاميّ. رافقنا رئيس الاستخبارات الباكستانيّة الجنرال نسيم رانا، ليُبدي للمُلّا عُمر أنّ باكستان في صفّنا. كانت هذه المرّة الأولى التي نذهب فيها أنا والشّيخ عبدالله إلى قندهار. اصطحبتنا من المطار جماعة مُسلّحة من طالِبان في سيّارة من طراز لاند كروزر، قدّموا لنا الغداء، ثُمّ أخذونا للقاء المُلّا عُمر.
كان الاجتماع في مبنىً من طابق واحد، دخلناه عبر ممرّ طويل ينتهي إلى غرفة استقبال كبيرة. كان هُناك المُلّا عُمر، رجلٌ نحيفٌ طويلٌ عظيمُ اللّحية وبعيْنٍ واحدة. كان المُلّا ورفقته حُفاة يرتدون ملابس طينيّة اللون، يجلسون على الأرض. كان العدد بين خمسة عشر أو عشرين رجُلاً. كان المشهد ودوداً. تبادلنا التّحايا، وتحدّثت مُطوّلاً عمّا يفعله بن لادن، وعن الإجراءات التي يُمكن للمُلّا أن يفعلها لإيقاف أنشطته، وأنهيت كلامي بالمُطالبة بتسليمه للسّعوديّة.
ردّ المُلّا عُمر بأنّه يعدّ أمن المملكة وأمانها أمراً شديد الأهميّة، ولن ينسى مساعدتها لأفغانستان في الحرب على الاحتلال السّوفياتي. وقال إنّه يريد من ناحية المبدأ التّخلّي عن بن لادن، لكنّه مُقيّد بالتزاماته بعدما مَنحه اللجوء. فرددتُ عليه بتفهّمي لتحفّظاته، لكن يجب أن ينظر إلى آيات القُرآن والأحاديث التي تُشدّد على أنّ أمنَ الأمّة أولى من مصالح الفرد. أوضحت للمُلّا أنّه بمُجرّد تسليم أُسامة ستتجاوز العلاقات بين البلديْن مرحلة الدّبلوماسيّة، ولم نعرض أيّ ترتيب ماليّ مُعيّن، ولم يطلُب ذلك. وبالطّبع المُلّا لم يكُن مُهتمّاً بالمال على الإطلاق.
في أيار 1996، اُستُؤجِرَت طائرة نفّاثة من الخطوط الأفغانيّة، ونُقِلَ أُسامة وزوجاته الثّلاث وأبناؤه وأتباعه إلى موطنه الجديد في جلال آباد، على رحلتيْن
الاستقالة قبل 11 أيلول
انتهت نقاشاتنا مع طالِبان إلى لاشيء. التّعامل مع هذا الكيان كان صعباً جدّاً، وكان تفكير قيادته غامضاً، ويصعب التأكّد منه. في السّابع من آب وقع تفجيرا السّفارتيْن الأميركيّتيْن في نيروبي ودار السّلام. قُتِلَ 224 شخصاً، غالبهم ممّن لا علاقة لهم بالسّفارتيْن. لم يكُن هناك شكّ في ضلوع بن لادن بالهجوميْن. اعتُقِلَ أحد المُهاجمين في طريق عودته إلى أفغانستان على الحدود مع باكستان، واعترَف بتنفيذ الهجوميْن بطلبٍ من بن لادن. أرسلت الحكومة الأميركيّة إلى قيادة طالِبان أنّها تملك أدلّة قاطعة على أنشطة بن لادن الإرهابيّة وتريد اعتقاله. كان الرّد أنّه “لا دليل” وأنّه “لن يُحاكم بعدلٍ”.
لذلك أمر الرّئيس الأميركي بيل كلينتون بهجمات انتقاميّة في 20 آب. فأطلقت البحريّة الأميركيّة خمسةً وسبعين صاروخاً من طراز كروز على مبانٍ لبن لادن حول خوست وقندهار وجلال آباد. وفي الوقت نفسه، أُطلِقَ هجومٌ صاروخيّ على مصنع الشّفاء للأدوية قرب الخرطوم، وأدّى إلى تدميره. كان هُناك اعتقاد أنّ المصنع يُنتِج موادّ تُستخدم في إنتاج أسلحة كيميائيّة. لكنّ الحقيقة أنّ المعلومات كانت خاطئة، ولم تعترف الحكومة الأميركيّة قطّ بخطئها.
إقرأ أيضاً: “الملفّ الأفغانيّ” (6/7): كيف تحالف طالبان وإيران
في شباط 2001، أمر المُلّا عُمر بتدمير تمثاليْن ضخميْن لبوذا في وادي باميان. ثارَ غضبٌ عالميّ، وتوجّهت بعثة إسلاميّة، فيها علماء سعوديّون، إلى كابول لإبداء اعتراضها لمسؤولي طالبان. كان الرّد ببساطة: “أنتم لا تفهمون”. وفي العاشر من آذار نُفِّذت أوامر المُلّا، وفُجّرَ التّمثالان بالديناميت وقصف الدّبابات.
في آب، استقلتُ من منصبي رئيساً للاستخبارات العامّة. وكُنتُ مُحبَطاً من أنّ التوفيق لم يُحالفني في إخراج بن لادن من أفغانستان، وبالأخصّ عدم إحرازي أيّ تقدّم في ذلك الملفّ على مرّ ثلاث سنين. لكنّ السّبب الرّئيس لاستقالتي أنّني كنتُ في المنصب منذ أربعةٍ وعشرين عاماً، وشعرتُ بأنّ سنّي قد كَبرت. ولم يكن لديّ أدنى فكرة عن أنّ قضيّة أفغانستان التي هيمنت على عملي منذ بدايته كانت تتحرّك نحو خاتمتها المروّعة: الغزو الأميركي بعد هجمات 11 أيلول.
* من كتاب “الملفّ الأفغانيّ” للمؤلّف الأمير تُركي الفيصل آل سعود الصّادر باللغة الإنكليزيّة:
THE AFGHANISTAN FILE – Arabian Publishing
الحقوق محفوظة للمُؤلّف.