“الملفّ الأفغانيّ” (6/7): كيف تحالف طالبان وإيران

مدة القراءة 7 د

ينشر “أساس” مقتطفات من كتاب “الملف الأفغاني” لمؤلّفه رئيس الاستخبارات العامّة السّعوديّة السّابق الأمير تركي الفيصل آل سعود على حلقات، بعدما أذِنَ مؤلّفه بذلك.

تحكي الحلقة السّادسة عن صعود حركة طالبان، والظّروف السّياسيّة والعسكريّة والأمنيّة التي أدّت إلى هيمنة حركة “طُلّاب المدارس الدّينيّة” المُتشدّدة على المشهد الأفغانيّ بشكلٍ سريعٍ، ومعها تغيّر الوجه السّياسي لأفغانستان حتّى الغزو الأميركي سنة 2001.

أعادت الحكومة الباكستانيّة النّظر في سياستها الأفغانيّة، وكان هدُفها أن تكون لها حكومة صديقة في أفغانستان، لإعطائها “عُمقاً استراتيجيّاً” في مواجهتها الطّويلة مع الهند. وفي الواقع أرادت أن تتّخِذَ من أفغانستان صديقة حتّى لا تجِد نفسها مُحاطة بقوى مُعادية

الحلقة السّادسة

بعد انهيار اتفاق السّلام الذي أُنجِزَ برعاية رئيس الوزراء الباكستانيّ الأسبق نوّاز شريف، ازدادت الأوضاع سوءاً في أفغانستان، فأصبحت البلاد أكثر عُنفاً وفوضى، وشهِدَت انعداماً للقانون أكثر ممّا كانت عليه خلال الحرب ضدّ الاحتلال السّوفياتي وحكومة نجيب الله، وازدادت البلاد فقراً. أسفَر القتال بين الحكومة الأفغانيّة ورئيس الحزب الإسلامي قلب الدّين حكمتيار في 1993 وأوائل 1994 عن مقتل حوالي 10,000 مدنيّ، أي ما يُعادل ثُلثيْ عدد ضحايا الحرب مع السّوفيات على مدار تسع سنوات من الاحتلال.

في كانون الثاني 1994 هاجم حكمتيار والمارشال في الجيش الأفغاني عبد الرّشيد دوستم العاصمة كابول، وحوّلا أجزاءً من المدينة إلى أنقاض. وقُسِّمَت أراضي البلاد بين قادة الحرب، واحد أو اثنان منهم من الشّخصيّات الرّئيسة، لكنّ غالبيّة الشّخصيّات غير ذات بال، من صغار قادة المُجاهدين وقُطّاع الطُرق. كان أكثر نشاط هؤلاء الأشخاص الصّغار في الجنوب، حول قندهار. نهبوا السّكان والشّركات والمُمتلكات الحكوميّة متى شاؤوا، واستولوا على المنازل، وقطعوا أشجار المُدن لتُباع حطباً، وسرقوا السّيارات والشّاحنات وآلات المصانع… باعوا الكثير من هذا لتُجّار الخردة في باكستان، وطُرِدَ أصحاب المنازل والمزارع منها، لتُمنَح لأنصار قادة الحرب. واختُطفت الفتيات والفتيان واغتُصِبوا.

كيف نشأت طالبان؟

في ردّة فعلٍ على هذه الظّروف ظهَرت مجموعة مُسلّحة جديدة في المنطقة المُحيطة بقندهار في الأشهر الأولى من 1994، ولم يكن العالم الخارجيّ يعرف عنها شيئاً في ذلك الوقت. كان مؤسّسوها رجالاً مثاليين، كثير منهم رجال دين، خاضوا الحرب ضدّ الشّيوعيين، وأغضبهم ما رأوه في البلاد التي اعتقدوا أنّهم قد حرّروها. أجرَت عدّة مجموعات صغيرة اجتماعات لمنُاقشة ما يُمكنهم فعله، ولم يكن ذلك مصادفة محضة، إذ قاتلوا جنباً إلى جنب ويعرف بعضهم بعضاً بالفعل. توصّلوا إلى استنتاج مُفاده أنّ الحلّ لمُشكلات بلادهم يكمن في التّطبيق الحرفيّ للشّريعة الإسلاميّة، مع نزع سلاح المواطنين. ونظراً لأنّ معظمهم كانوا يعيشون في المدارس الدّينيّة، وكانوا يتبعون المذهب الحنفيّ، فقد قرّروا تسمية أنفسهم “الطُّلّاب” (طالِبَان)، وتُنطَق Taleban. وكان للاسم رنّةٌ جيّدة ونقيّة ومثاليّة. كانوا في غالبيّتهم من البشتون، ولم تحظَ حركتهم بدعمٍ كبير من الطّاجيك والأوزبك.

هناك قصّة شهيرة عن تحوّل طالِبان إلى منظّمة عسكريّة. ولا شكّ أنّ مثل هذه القصص تتعرّض على مرّ السّنين للتنميق والتزيين، لكنّها قصّة جديرة بأن يُعاد سردها. تروي القصّة أنّ بعض سكّان قرية قريبة من قندهار جاؤوا في أحد أيّام ربيع 1994 ليُخبروا المُلّا محمّد عُمر، أمير الحركة لاحقاً، أنّ قائداً محليّاً اختطف فتاتيْن مُراهقتيْن، وأنّ رأسيهما حُلِقا، وتعرّضتا للاغتصاب غير مرّة. فتأثّر عُمر بهذه القصّة المُروّعة، وجنّد ثلاثين طالباً وزوّدهم بستَّ عَشْرَة بُندقيّة، فهاجموا قاعدة القائد وأطلقوا سراح الفتاتيْن، ثمّ أعدم عُمر القائد شنقاً على فوهة مدفع دبّابة، واستولى أتباعه على كميّة كبيرة من الأسلحة والذّخيرة.

كي تُحقّق الحكومة أهدافها، كانت سياستها منذ المراحل الأخيرة من الاحتلال السّوفياتي هي دعم قلب الدّين حكمتيار، قائد أقوى أحزاب البشتون، فالحكومة التي يقودها بشتونيّ يكون لها جاذبيّة طبيعيّة لباكستان

بعد بضعة أشهر في قندهار، حدثت مواجهة بين قائديْن يتنازعان على صبيّ صغير كانا يُريدان اغتصابه، وتحوّلت المواجهة البغيضة إلى معركة بين ميليشيات القائديْن، ومرّةً أُخرى تدخّل “الطُّلّاب” وأطلقوا سراح الصّبيّ. ثمّ بدأت المُناشدات تتوالى على الطُّلّاب للمُساعدة في نزاعات مُماثلة. وكان النّجاح حليفهم دائماً، وازداد المُلّا عُمر مهابةً.

تزامناً مع الأحداث، أعادت الحكومة الباكستانيّة النّظر في سياستها الأفغانيّة، وكان هدُفها أن تكون لها حكومة صديقة في أفغانستان، لإعطائها “عُمقاً استراتيجيّاً” في مواجهتها الطّويلة مع الهند. وفي الواقع أرادت أن تتّخِذَ من أفغانستان صديقة حتّى لا تجِد نفسها مُحاطة بقوى مُعادية.

كي تُحقّق الحكومة أهدافها، كانت سياستها منذ المراحل الأخيرة من الاحتلال السّوفياتي هي دعم قلب الدّين حكمتيار، قائد أقوى أحزاب البشتون، فالحكومة التي يقودها بشتونيّ يكون لها جاذبيّة طبيعيّة لباكستان. لكنّ حكمتيار فقد مصداقيّته، وأدّى تطرّفه إلى تقسيم البشتون، الذين يُبغضه غالبيّتهم، وبدا أنّه يفقد الأرض عسكريّاً.

بمعزل عن هذا النّقاش، حدث تقارب بين بعض قادة قندهار وإسماعيل خان، الذي كان قائد مدينة هراة، حول السّماح للشّاحنات بالمرور عبر الجزء الغربيّ من أفغانستان إلى تركمانستان. وكان يُعتقد أنّ هذا الطّريق قد يكون أقلّ خطورة من غيره. كان وزير الدّاخليّة الباكستاني نصير الله بابر يُنظّم زيارة إلى قندهار وهراة، وفي ذلك التّوقيت اقتحمت طالِبان المشهد فجأة. لقد كان مَن تواصل معهم هم من يُعرفون في باكستان باسم “مافيا النّقل بالشّاحنات”، وهم أعضاء النّقابات المالكة للشّاحنات الكبيرة، وقد سئموا من ابتزاز رجال حكمتيار الذين كانوا يُسيطرون على المنطقة الحدوديّة. وكان ديدنُ الميليشيات الحدوديّة هو الإصرار على تفريغ بضائع الشّاحنات الباكستانيّة وتعبئتها في شاحنات أفغانيّة. بعد ذلك يُطالب هؤلاء بالحصول على أموال من الشّاحنين الباكستانيّين، ليصل جزءٌ منها إلى جيوب أفراد الميليشيا. وهو ما جعل نقابات الشّاحنات الباكستانيّة تتبرّع ببعض المال لطالِبان، وتعدها براتب شهريّ إذا تعهّدت بتطهير الطُّرق. وقد استجابت طالِبان في 12 تشرين الأول 1994 حين استولى حوالي مئتيْن من أفرادها على النّقطة الحدوديّة الأفغانيّة الصّغيرة “سبين بولدك” على طريق كويتا – قندهار، واستولوا على كميّة كبيرة من الأسلحة.

إقر أيضاً: “الملف الأفغانيّ” (5/7): أُسامة بن لادن يُريد قتال صدّام حسين

خلال الأسابيع الأخيرة من 1994، سيطرت الحركة على بقيّة جنوب أفغانستان وتقدّمت قوّاتها إلى الشّمال، باتجاه هراة، وإلى الشّمال الشّرقيّ في اتجاه كابول. في 11 شباط، استولوا على بلدة محمّد آغا على بعد 25 ميلاً من كابول، وحاصروا جزءاً من جيش حكمتيار. وبعد ثلاثة أيّام احتلّوا مقرّه وهربت بقايا قوّاته باتجاه جلال آباد. ثمّ وقعت حادثة غير عاديّة كان لها أثرها على السّياسة الأفغانيّة طوال فترة بقاء طالبان، وذلك حين وجّه قائد الجمعيّة الإسلاميّة أحمد شاه مسعود قوّاته ضدّ ميليشيا الهزارة، وهم شيعة من أصول مغوليّة، كانوا في تحالف أثيم مع حكمتيار، وكانوا يحتلّون ضواحي كابول الجنوبيّة، فأجلاهم عنها. وفي يأسٍ منهم لجأوا إلى طالبان، وهم حُلفاء غير عاديّين أكثر من حكمتيار، لأنّ طالبان كانوا من السّنّة، من أكثر المذاهب الديوبنديّة تشدّداً وطهوريّة. تخلّى الهزارة عن المواقع التي كانوا لا يزالون يحتلّونها، وسلّموا أسلحتهم الثّقيلة لطالِبان، لكن في خِضَمّ تسليم السُّلطة قُتِلَ قائدهم عبد العلي مزاري، وزَعمَ الهزارة أنّه نُقِل إلى قندهار سجيناً، وأنّه حاول الاستيلاء على بندقيّة في محاولة للهروب، لكنّه لم ينجح، وحُمِل في مروحيّة وأُلقي منها. ومنذ ذلك الحين كان مقتله لعنةً على طالِبان في عيون الشّيعة الأفغان والإيرانيين، حتّى غزا الأميركيّون أفغانستان عام 2001، وحينها وجدت إيران وطالبان عدوّاً مُشترَكاً.

من كتاب “الملفّ الأفغانيّ” للمؤلّف الأمير تُركي الفيصل آل سعود الصّادر باللغة الإنكليزيّة:

THE AFGHANISTAN FILE – Arabian Publishing

الحقوق محفوظة للمُؤلّف.

مواضيع ذات صلة

لبننة “الحزب”؟

منذ نشأته كانت لبنانية “الحزب” مسألة إشكالية، في الشكل كما في المضمون. والمضمون والشكل هنا متلازمان متساويان في الدلالة والمعنى. اليوم لم يعد من هامش…

“سمفونيّة الأمل” في السعوديّة.. والقوّاس: لعودة لبنان للحضن العربي

“لبنان جريح، وشفاؤه بالعودة إلى الحضن العربي”. هذه خلاصة كلمة رئيسة المعهد الوطني اللبناني العالي للموسيقى السوبرانو هبة القوّاس في حفل موسيقي ضخم نظّمته في…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (2/2)

في الجزء الثاني من هذه التحية إلى المثقف الراحل الياس خوري، يكتب كلٌّ من: علوية صبح، وواسيني الأعرج، ويوسف المحيمد، وليانة بدر، وطالب الرفاعي، وسمر…

نداءٌ ثانٍ ودائم إلى دولة “النبيه”

هو صاحب الفكرة، حامل القلم، إبرة الميزان، والممسك بخيوط كثيرة. لا تخطئ بوصلة نبيه بري. السياسة عنده احتراف. أحد أبرز صنّاع الاستثناء في التاريخ اللبناني…