“الملفّ الأفغانيّ” (4/7): “ستينغر” يقصم ظهر السّوفيات…

مدة القراءة 6 د

ينشر “أساس” مقتطفات من كتاب “الملف الأفغاني” لمؤلّفه رئيس الاستخبارات العامّة السّعوديّة السّابق الأمير تركي الفيصل آل سعود على حلقات، بعدما أذِنَ مؤلّفه بذلك.

تحكي الحلقة الرّابعة عن تحوّل الموقف السّوفياتي من البقاء في أفغانستان بعد وصول ميخائيل غورباتشوف إلى قيادة الحزب الشّيوعي، وتطوّر القُدرات العسكريّة للمُجاهدين الأفغان، ودخول صاروخ “ستينغر” الأميركي المُضادّ للطّائرات إلى المعركة، وكيف قلب موازين القوى لمصلحة “المُقاومة الأفغانيّة”.

الحلقة الرّابعة:

بدأ موقف الحكومة السّوفياتيّة من الحرب يتغيّر عندما أصبحَ ميخائيل غورباتشوف أميناً عامّاً للحزب الشّيوعي في كانون الثاني من عام 1985. ومنذ تلك اللحظة أصبحَت المُناقشات داخل المكتب السّياسيّ أكثر صدقاً، وأقلّ اعتماداً على مجرّد اعتقاد. قال غورباتشوف أمام مؤتمر الحزب في شباط: “إنّ الثّورة المُضادّة والإمبرياليّة حوّلتا أفغانستان إلى جرحٍ نازف”. وبعد تسعة أشهر، أخبَر غورباتشوف زُملاءه في المكتب السّياسي أنّ الهدف يجب أن يكون انتهاء الحرب في “عامٍ واحد، وبحدٍّ أقصى في عاميْن”، وتُسحَب القُوّات. وكان البديل أن تشهد الحرب تصعيداً كبيراً في الرّجال والمال والعتاد، وكان ذلك غير واردٍ.

أزاحَ السّوفيات الرّئيس العميل لهم في كابول. ففي تشرين الثاني 1985، رتّبوا لترقية الدّكتور محمّد نجيب الله، رئيس الشّرطة السّريّة الأفغانيّة، إلى المكتب السّياسي، وفي بداية أيار 1986 نُصِّبَ رئيساً. وكان نجيب الله يُمثّل فرصةً أفضل للرّوس من أسلافه. وكان من البشتون، وكان واثقاً من نفسه، ويبدو أكثر استقلاليّة، وكان لَبِقاً. في بداية كانون الأول 1986، استُدعِيَ إلى موسكو وأُخبِرَ بخطط الحكومة لإنهاء الحرب.

منَ الواضح أنّ خطاب “الجرح النّازف” كان شديدَ الأهميّة، لكن لم تكن لدينا أيّ فكرة في عام 1986 عن مدى القلق الذي وصلَ إليه الرّوس. كان ما يشغلنا بالأساس، جنباً إلى جنب مع وكالة الاستخبارات الباكستانيّة ووكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة، هو خوضُ الحرب، وتجنّب الهزيمة في ذلك التّوقيت، وكُنّا قلقين بشكلٍ خاص بشأن الخسائر التي تكبّدها المُجاهدون بسبب الطّائرات والمروحيّات السّوفياتيّة.

وعلى الرّغم من بعض النّجاحات التي سجّلها المُجاهدون، إلّا أنّهم كانوا في حاجةٍ إلى نظامٍ مُضادٍّ للطّائرات فعّال حقّاً، وكان الحلّ الواضح هو صاروخ “ستينغر”، وهو سلاحٌ جديد عالي الفعّاليّة وخفيف الوزن، يُطلَقُ من الكتِف. وقد أثارَ الباكستانيّون الأمر بجدّيّة عندما استعرضوا الوضعَ مع الأميركيين في نهاية 1985.

سُلِّحَت القوّات الأميركيّة بصاروخ “ستينغر” في عام 1981، لكنّه لم يُستخدَم في المعركة، ولا تزال تقنيّته سِرِّية. وكانَ ما يُثيرُ القلق هو أنّه إذا ما استُخدِمَ هذا الصّاروخ في أفغانستان فإنّه سيقع عاجلاً أم آجلاً في أيدي السّوفيات. وقد يستولي عليه الإيرانيّون، بل قد يجد طريقه إلى أيدي جماعة إرهابيّة. كانَ الرّئيس ضياء الحقّ نفسه مُتوتّراً بشأن الاغتيال، فقد تعرّض خلال حياته لعدّة مُحاولات اغتيال، وكان قلِقاً من أن يُستخدَم الصّاروخ ضدّ طائرته. في النّهاية، رجّحَ كفّة التزويد بالصّاروخ الهجومُ السّوفياتي الكبير بالقرب من الحدود في نيسان 1986. وبعد أسابيع قليلة من الهجوم وافقَ الرّئيس ريغان على الإمداد، وسافر المُدرّبون الباكستانيّون إلى الولايات المُتّحدة لتلقّي التدريب في حزيران. أُنشِئَت مدرسة يتولّى فيها المُدرّبون تدريب المُجاهدين على استخدام صاروخ ستينغر في مُعسكر أوجهري في روالبندي. وأُجرِيَت جميع التدريبات على جهاز مُحاكاة، ولم يُطلق صاروخ على أرضِ الواقع حتّى استُخدِمَ في أفغانستان.

بدأ موقف الحكومة السّوفياتيّة من الحرب يتغيّر عندما أصبحَ ميخائيل غورباتشوف أميناً عامّاً للحزب الشّيوعي في كانون الثاني من عام 1985. ومنذ تلك اللحظة أصبحَت المُناقشات داخل المكتب السّياسيّ أكثر صدقاً

تلقّى الدّورة التدريبيّة الأولى مجموعة صغيرة من رجال حزب حكمتيار، والثّانية لشخصيْن من حزب مولوي يونس خالص. كان نظام التّوزيع والاستخدام خاضعاً لرقابة صارمة. وابتكَر الأميركيّون طريقةً لجعل الصّواريخ غير صالحة للعمل بعد فترة مُعيّنة.

في أيلول 1986، دخلت وحدة المُجاهدين الأولى المُجهّزة بـ”ستينغر” إلى أفغانستان، واقتربت من مطار جلال آباد بين الحدود الباكستانيّة وكابول، وشاهدَت الوحدة عدداً من المروحيّات تقترب، فأطلقت عليها خمسة صواريخ ودمّرت ثلاثاً منها. وتولّى مُصوّرٌ توثيقَ الحدث. كان الرّجل مُتحمّساً جدّاً حتى إنّه كان يُصوِّر وهو يركض، وكان الفيلم، الذي شاهدته بعد التسجيل، يتكوّن بالأساس من صورٍ ضبابيّة للسّماء والشجيرات والأرض، لكنّه نجح في النّهاية في تثبيت نفسه بما يكفي لتصوير الدّخان المُتصاعد من الحطام. عُرِض الفيلم على الرّئيس ريغان، وقد أعجبه.

في الأشهر العشرة التي تلت ظهور “ستينغر”، دمّرت الصّواريخ أكثر من مئة طائرة ومروحيّة، وشجّع ذلك المُجاهدين على الاستمرار في عمليّاتهم خلال شتاء 1986 – 1987. وكان هذا الشّتاء أوّلَ شتاءٍ لا يفقد فيه المُجاهدون أرضاً حول كابول.

قلبت صواريخ ستينغر موازين القتال لمصلحة المُجاهدين. وحدث تغيير مُهمّ آخر في العمليّات في ذلك الوقت، وهو تصعيد العمليّات قليلاً عبر الحدود داخل الاتحاد السّوفياتي (أوزبكستان، وطاجيكستان). وكان مَن طرح مبادرة تلك العمليّات في الأصل هو مدير الـCIA ويليام كايسي في إحدى زياراته إلى السّعوديّة وباكستان.

إقرأ أيضاً: “الملف الأفغانيّ” (3/7): هكذا “وُلِدَ” عزّام وبن لادن والظّواهريّ

بدأت العمليّات في عام 1984 على حذرٍ، بتوزيع المصاحف والدّعاية المُعادية للسّوفيات، وهو الأمر الذي لاقى استحساناً. وكان المردود بأن وردَت تقارير حول أشخاصٍ يريدون المُساعدة، منهم مَن أراد السّلاح، ومنهم من أرادَ الانضمام إلى المُجاهدين، وسعى آخرون للمُشاركة في العمليّات داخل الاتحاد السّوفياتي. أصبحَت الولايات المُتحدة في هذه المرحلة مُتوتّرة بشأن تقديم أيّ شيء يُمكن تتبّعه ومعرفة أنّها مصدره، ولا سيّما الخرائط الكبيرة الحجم، ومن هذا المُنطلق، اتُّخِذَ قرار بعدم محاولة إثارة نشاط المُجاهدين بين مواطني الجمهوريّات السّوفياتيّة.

وبدلاً من ذلك، بدأت حملة من الهجمات عبر الحدود في 1985، لكن مرّة أُخرى كنّا جميعاً قلقين بشأن عواقب النّجاح المفرط. كان هناك خطّة لتفجير “جسر الصّداقة” عبر نهر جيحون بالقرب من ترمذ، الذي كان يُعدُّ نقطة الانطلاق لطريق سالانغ السّريع، ونقطة حاسمة للتضييق على الإمدادات السّوفياتيّة، وقد أُلغيت الخطّة لأنّ الرّئيس ضياء الحقّ كان يخشى أن يرُدّ السّوفيات بتفجير جسور مُماثلة في باكستان.

*من كتاب “الملفّ الأفغانيّ” للمؤلّف الأمير تُركي الفيصل آل سعود الصّادر باللغة الإنكليزيّة:

THE AFGHANISTAN FILE – Arabian Publishing

الحقوق محفوظة للمُؤلّف.

مواضيع ذات صلة

“سمفونيّة الأمل” في السعوديّة.. والقوّاس: لعودة لبنان للحضن العربي

“لبنان جريح، وشفاؤه بالعودة إلى الحضن العربي”. هذه خلاصة كلمة رئيسة المعهد الوطني اللبناني العالي للموسيقى السوبرانو هبة القوّاس في حفل موسيقي ضخم نظّمته في…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (2/2)

في الجزء الثاني من هذه التحية إلى المثقف الراحل الياس خوري، يكتب كلٌّ من: علوية صبح، وواسيني الأعرج، ويوسف المحيمد، وليانة بدر، وطالب الرفاعي، وسمر…

نداءٌ ثانٍ ودائم إلى دولة “النبيه”

هو صاحب الفكرة، حامل القلم، إبرة الميزان، والممسك بخيوط كثيرة. لا تخطئ بوصلة نبيه بري. السياسة عنده احتراف. أحد أبرز صنّاع الاستثناء في التاريخ اللبناني…

برّي أطلق مبادرة لوقف إطلاق النار في الجنوب

علم “أساس” أنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي يعمل على مبادرة عنوانها التفاهم على خفض التصعيد في جنوب لبنان من الطرفين، ما يسمح بفتح مسار…