“الملف الأفغانيّ” (3/7): هكذا “وُلِدَ” عزّام وبن لادن والظّواهريّ

مدة القراءة 8 د

ينشر “أساس” مقتطفات من كتاب “الملف الأفغاني” لمؤلّفه رئيس الاستخبارات العامّة السّعوديّة السّابق الأمير تركي الفيصل آل سعود على حلقات، بعدما أذِنَ مؤلّفه بذلك.

 

تحكي الحلقة الثّالثة عن صعود نجم مؤسّس ما يُعرَف بـ”مكتب الخدمات”، عبدالله عزّام، وزعيم تنظيم القاعدة ومُؤسّس “دار الأنصار” أُسامة بن لادن، وُمرشد التنظيم أيمن الظّواهريّ، ودورهم في استقطاب المُقاتلين العرب للمُشاركة في المُقاومة ضدّ الغزو السّوفياتي لأفغانستان، وذلك لما سيكون لهم من أدوارٍ مُباشرة وغير مُباشرة في حلقاتٍ مُقبلة.

الحلقة الثّالثة:

عبدالله عزّام

في أيّام الحرب الأولى في أفغانستان، ومع تزايد الوجود العربيّ تدريجيّاً، كان من الطّبيعي أن يُنشئَ شخصٌ ما في وقتٍ ما مركزَ استقبال مُخصّصاً للمُتطوّعين العرب، وكان الشّخص الذي اتخذ هذه المُبادرة في عام 1984م هو أُستاذ جامعيّ فلسطيني اسمه عبدالله عزّام.

كان اللقاءُ بين الظّواهري وأسامة مُهمّاً، لأنّه رغمَ وضوح أنّ أُسامة كان شخصيّة قويّة وحيويّة، إلا أنّه كان شديدَ التأثّر بمن حوله

كانت مسيرة عزّام مُضطربة إلى حدٍّ ما، فقد كان يبحثُ عن دور في الحياة. وهو وُلِدَ بالقرب من مدينة جنين الفلسطينيّة، وفي السّبعينيّات تلقّى تعليمه في الأزهر في القاهرة، حيث حَصَل على شهادة الدّكتوراه في الشّريعة الإسلاميّة. هناك أصبح مُرتبطاً بالحركة السّياسيّة القوميّة / الإسلاميّة الرّاسخة، جماعة الإخوان المُسلمين، وكانت له علاقات مع سيّاسيين إسلاميين مُعارضين، من بينهم المصري المنفيّ محمّد قُطُب، الذي أعدَم نظامُ الرئيس المصري جمال عبد النّاصر شقيقَه سيّد قُطب.

عندما غادر مصر، درّسَ عزّام لبعض الوقت في الجامعة في عمّان – الأردن. لكن الحكومة اعتبرت آراءه تخريبيّة، وفُصِلَ. ثمّ انتقلَ إلى جدّة ليَعمَل في جامعة الملك عبد العزيز. كان يخطُب في مَسجِدِ الجامعة، ولأنّه كان مُتحدِّثاً بليغاً، يُلقي خطباً مدروسةً بعناية تتناول مواضيع راهنة مُثيرة للاهتمام، فقد اجتذَبَ جماعة كبيرة ومُنتظمة.

شهِدَت بداية الثّمانينيات، عندما كان عزّام في جدّة، ازدهار النّشطاء الإسلاميين، فقد سادَ شعور واسع النّطاق بأنّ المُجتمع أصبحَ شديد العلمانيّة خلال فترة النّمو الاقتصاديّ السّريع في السّبعينيّات… وقد عنى هذا النّظر إلى جذورنا الإسلاميّة، فبُنيَت مساجدَ جديدة، وظهر المزيد من البرامج الدّينيّة على التلفزيون، ووُسِّعَ نطاق المُحتوى الإسلاميّ في المناهج المدرسيّة. وقد أدّت هذه التطوّرات إلى زيادة مُطّردة في أعداد الدُّعاة والمُدرّسين الدينيين، وأدّى كما علمنا لاحقاً بعد فوات الأوان، إلى انتشارٍ تدريجيّ للمشاعر التّخريبيّة… كان هذا الأمر مثار قلقٍ لعددٍ قليلٍ جدّاً من النّاس، إذ كُنّا نحن والعالم الغربيّ أكثر قلقاً بشأن الشّيوعيّة.

كان بوسع عبدالله عزّام أن يُبليَ بلاءً حسناً في جامعة الملك عبدالعزيز في هذه الأجواء، لكنّه كان ثائراً. فلكونه مُتطرّفاً وفلسطينيّاً، انجذبَ إلى فكرة الجهاد، وعلى المدى الطّويل شعرَ أنّ الجهاد، وليس بالضّرورة بالقوّة العسكريّة، هو الحلّ الوحيد للنّهوض بشعبه، لكنّه رأى أن الجهاد في فلسطين لوّثته أيدي القوميين والماركسيين. بدا له أنّ الحاجة الأكثر إلحاحاً للجهاد كانت في أفغانستان، فغادر السّعوديّة وشغَلَ وظيفةً في إسلام آباد، وانخرطَ في أعمال الإغاثة، وساعدَ في إدارة مجلس للجمعيّات الخيريّة العربيّة والإسلاميّة. ومن خلال هذا رأى الحاجة إلى وجود هيئة للمُساعدة في تنظيم المُتطوّعين العرب.

في 1984م أسّس عزّام في بيشاوِر مُؤسّسة أطلق عليها اسم “مكتب الخدمات”، وكان يُمثّل جزئيّاً مُجرّد دار للضّيافة. أصبحَ المكتب معروفاً بين الجالية العربيّة في باكستان، وكان السّعوديّون واليمنيّون والمصريّون وغيرهم من العرب الذين يصلون إلى البلاد يقصدونه طلباً للإقامة. وجّهزَ المكتب حافلاتٍ لنقل النّاس إلى بيشاور من مطار إسلام آباد. كان المكتب حين يستقبل متطوّعين عسكريين يُحاول توزيعهم على الأحزاب الأفغانيّة بالتّساوي. ولم يُشجِّع المكتب المُتطوّعين غير العسكريين على الانخراط مع أيّ حزبٍ سيّاسيّ. ولجمع الأموال من أجل تمويل أنشطته، سافرَ عزّام إلى المملكة العربيّة السّعوديّة والولايات المُتّحدة. في عام 1986 افتتح مكتباً في توسون بولاية أريزونا حيث كانت توجد جالية عربيّة كبيرة. وحتّى ينشرَ عمليّاته ويُروّج للقضيّة التي يُكافح من أجلها أصدَر مجلّة باللغة العربيّة أطلق عليها اسمَ “الجهاد”.

في 1984م أسّس عزّام في بيشاوِر مُؤسّسة أطلق عليها اسم “مكتب الخدمات”، وكان يُمثّل جزئيّاً مُجرّد دار للضّيافة

أسامة بن لادن وأيمن الظّواهري

بعد وقتٍ قصير من إنشاء “مكتب الخدمات” وصلَ إلى بيشاور شابٌّ اسمه أُسامة بن لادن. وُلِدَ أسامة عام 1957، وكان من الأبناء الأصغر سِنّاً من بين عدّة أبناء للمُقاول الشّهير، والنّاجح إلى حدٍّ كبير، محمّد بن لادن، وهو الابن الوحيد لأمٍّ سوريّة… درَسَ أسامة الهندسة في جامعة الملك عبد العزيز، قبل سنوات قليلة من تدريس عبدالله عزّام هناك. لكنّه ترَكَ الدّراسة قبل استكمالها. أصبَح مُهتمّاً بأفغانستان كغيره من الشّباب السّعوديين الآخرين في أوائل الثّمانينيات، وسافر إلى هناك لأوّل مرّة في 1984 أو 1985 والتقى عزّاماً. كانَ الدّور الرّئيس لأسامة في مكتب الخدمات والمؤسّسات الأخرى هو جمع الأموال. في منتصف ثمانينيّات القرن الماضي سافر بانتظام بين السّعوديّة وباكستان، وفي 1986 أحضَر معه إلى باكستان بعض مُهندسِي ومُعدّات شركة بن لادن للمُساعدة في بناء الطّرق والمُستودعات، ومن ذلك مُجمّع نفق خوست، الذي كان قاعدةً لتخزين الأسلحة والتدريب والرّعاية الطّبيّة في الجبال الأفغانيّة القريبة من حدود باكستان.

وقد جعله عملُهُ في جمع الأموال، ومكانته البارزة إلى حدٍّ ما، نظراً لاسمه الشّهير، على اتصال بكبار الشّخصيّات في الحكومة السّعوديّة. التقيته ثلاثَ مرّات أو أربعاً في حفلات الاستقبال في باكستان، ووجدّته شابّاً لطيفاً ومُهذّباً للغاية، وكان حماسيّاً لكنّه لطيف، وكان خفيض الصّوت عندما يتحدّث… وقد قدّرنا ما كان يفعله، وفي أثناء ذلك كُنّا مُهتمّين بسماع ما سيقوله عن الأوضاع على الحدود، لكنّه لم يضطلع قطُّ بأيّ دور رسميّ على أيّ صعيد في الحكومة، فقد كان للاستخبارات العامّة علاقات كافية مع الحكومة الباكستانيّة والأحزاب الأفغانيّة وقادة الأحزاب، بما لا يجعل أسامة ضروريّاً لنا على أيّ نحوٍ تنظيميّ.

وحين سنحت الفُرصة أسّسَ أسامة دارَ الضيافة ومركز الاستقبال الخاصّ به “دار الأنصار”. الاسم الذي اختاره أسامة أعطى مؤسّسته طابعاً دينيّاً مُميّزاً. افتُتِحَت الدّار في حين بدأ العرب المُشاركة في القتال على الجانب الآخر من الحدود، وهو ما يعني أنّها أصبحت أكثر انخراطاً من “مكتب الخدمات” مع المُتطوّعين العسكريين. كان لدى عزّام وأسامة وُجهتا نظر مُختلفتان حولَ كيفيّة تنظيم المُتطوّعين. فعزّام اعتقد أنّ العرب كانوا أقلّ عدداً من أن يكونوا مُؤثّرين بمُفردِهم بوصفهم مجموعة مُتّحدة، وأنّ نشر المُتطوّعين في صفوف الأحزاب الأفغانيّة كان وسيلةً مُفيدة لإظهار تلقّي المُجاهدين للدّعم الدّولي. أمّا أُسامة، فأراد قوّة عسكريّة عربيّة على نطاقٍ صغيرٍ جدّاً، وهذا ما أنشأه، فجنّد حوالي خمسين أو مئة من المُجاهدين العرب، وجهّزهم بالأسلحة التي اشتُرِيَت من سوق الأسلحة في بيشاور، وتمكّن من نقل قوّته إلى أفغانستان. وداخل أفغانستان، بنى أُسامة مُعسكراً صغيراً مُحصّناً حول الكهوف في الجبال قرب خوست…

وبطريقةٍ أو بأُخرى، نظّم أُسامة الكثير من الدّعاية لموقفه البطولي في باكستان والمملكة العربيّة السّعوديّة، فأجرى عدّة مُقابلات، وألقى بعض المُحاضرات العامّة، وأصبح من المشاهير النّاشئين. وخلال الحملة الدّعائيّة التقى الطّبيب المصري أيمن الظّواهري. كان الظّواهري أكبر سنّاً من أسامة بقليل، وكان من عائلة مصريّة ثريّة، وانخرطَ في السّياسة الإسلاميّة عضواً في “حركة الجهاد الإسلامي” المصريّة، التي كانت فرعاً مُتطرّفاً وعنيفاً من جماعة “الإخوان المُسلمين”. اتّبعَ الظّواهريّ فكر سيّد قُطب وخالد الاسلامبولي. كان سيّد قُطب يرى أن أيّ شخصٍ لا يُوافق على تفسيره الحرفيّ والأصولي للقرآن لا يُمكن اعتباره مُسلماً. أمّا الاسلامبولي فكان هو الرّجل الذي اغتال الرّئيس المصري أنور السّادات عام 1981.

إقرأ أيضاً: الملفّ الأفغانيّ (2): ممنوع الإتصال بين الأميركيين والمجاهدين..

كان اللقاءُ بين الظّواهري وأسامة مُهمّاً، لأنّه رغمَ وضوح أنّ أُسامة كان شخصيّة قويّة وحيويّة، إلا أنّه كان شديدَ التأثّر بمن حوله، ويبدو أنّه كان يُحبّ الحصول على دعمٍ من مُرشدٍ ما له. ولكون الظّواهريّ أكبَرَ سِنّاً ولديه خبرة في السّياسة أكثر من أسامة، أصبح هو ذلك المُرشد، ومنذ ذلك  الحين أصبحَ له تأثير على مسيرة أسامة.

انتقلت إلى أُسامة الشّاب الأفكار المُتعصّبة التي استقاها الظّواهريّ من سيّد قطب، وفي الوقت المُناسب أصبحت السّمة المُميّزة للقاعدة، ثمّ لداعش والجماعات المُنشقّة المُختلفة، والإرهابيين الإسلاميين الذين ابتُليَ بهم العالم في السّنوات العشرين الماضية.

 

من كتاب “الملفّ الأفغانيّ” للمؤلّف الأمير تُركي الفيصل آل سعود الصّادر باللغة الإنكليزيّة:

THE AFGHANISTAN FILE – Arabian Publishing

الحقوق محفوظة للمُؤلّف.

 

مواضيع ذات صلة

لبننة “الحزب”؟

منذ نشأته كانت لبنانية “الحزب” مسألة إشكالية، في الشكل كما في المضمون. والمضمون والشكل هنا متلازمان متساويان في الدلالة والمعنى. اليوم لم يعد من هامش…

“سمفونيّة الأمل” في السعوديّة.. والقوّاس: لعودة لبنان للحضن العربي

“لبنان جريح، وشفاؤه بالعودة إلى الحضن العربي”. هذه خلاصة كلمة رئيسة المعهد الوطني اللبناني العالي للموسيقى السوبرانو هبة القوّاس في حفل موسيقي ضخم نظّمته في…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (2/2)

في الجزء الثاني من هذه التحية إلى المثقف الراحل الياس خوري، يكتب كلٌّ من: علوية صبح، وواسيني الأعرج، ويوسف المحيمد، وليانة بدر، وطالب الرفاعي، وسمر…

نداءٌ ثانٍ ودائم إلى دولة “النبيه”

هو صاحب الفكرة، حامل القلم، إبرة الميزان، والممسك بخيوط كثيرة. لا تخطئ بوصلة نبيه بري. السياسة عنده احتراف. أحد أبرز صنّاع الاستثناء في التاريخ اللبناني…