من المفيد التوقّف مجدّداً عند البيان الصادر عن القمّة الخليجية التي انعقدت أخيراً في الرياض، والانعكاس المحتمل لهذا البيان الصادر عنها على القمّة العربيّة المقبلة التي يُفترض انعقادها في الجزائر في آذار المقبل. كشفت القمّة الـ42 لمجلس التعاون لدول الخليج العربيّة ابتعاداً عن المواقف الرماديّة التي كانت تُعتمد عربيّاً بين حين وآخر في الماضي، خصوصاً في القمم العربيّة من أجل المحافظة على وهم وحدة الصفّ العربي.
يمكن اعتبار قمّة بغداد، التي انعقدت في أواخر العام 1978 تحت شعار قمّة “قرارات الحدّ الأدنى”، دليلاً على نجاح الابتزاز الذي مارسه وقتذاك البعثان العراقي والسوري على العرب الآخرين. انعقدت تلك القمّة من أجل الردّ على زيارة الرئيس الراحل أنور السادات للقدس في 19 تشرين الثاني 1977، وما تلا ذلك من مفاوضات وأحداث أدّت إلى توقيع اتفاقيْ كامب ديفيد في أيلول 1978.
كشفت القمّة الـ42 لمجلس التعاون لدول الخليج العربيّة ابتعاداً عن المواقف الرماديّة التي كانت تُعتمد عربيّاً بين حين وآخر في الماضي، خصوصاً في القمم العربيّة من أجل المحافظة على وهم وحدة الصفّ العربي
أراد البعث، بنسختيْه العلويّة والتكريتيّة، الردّ على مصر، فكانت القمّة – الكارثة التي انعقدت في بغداد. حصل ذلك في وقت كانت دول عربيّة عدّة ترفض الذهاب إلى قطيعة مع مصر التي اختارت طريق السلام، من أجل استعادة أرضها المحتلّة، بعيداً عن المزايدات والشعارات الفارغة التي لا تعني شيئاً، بل تعني في الحقيقة تكريس الاحتلال الإسرائيلي للأرض كما هو حاصل في الجولان السوري منذ العام 1967.
لو قرأ النظام الجزائري، الذي يتحكّم به العسكر، رسالة القمّة الخليجيّة بدقّة لكان تخلّى عن كلّ المناورات التي يقوم بها هذه الأيّام مستفيداً من توفّر بعض المال له نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز. لو فعل النظام الجزائري ذلك، من أجل رفاه الجزائريين أوّلاً، لما كان أطلق أركانه شعارات متناقضة بحدّ ذاتها من نوع أنّ الهدف من القمّة توحيد الموقف العربي. لا يمكن لشعار من هذا النوع أن يجد له مكاناً على الخريطة السياسية العربيّة انطلاقاً من الجزائر. فعندما يتحدّث المسؤولون الجزائريون في الوقت ذاته عن قمّة ستبحث في القضيّة الفلسطينية وقضيّة الصحراء، فإنّ أقلّ ما يمكن قوله أنّهم يسيئون إلى أنفسهم وبلدهم أوّلاً. مجرّد الربط بين القضيّة الفلسطينية وما يُسمّى قضيّة الصحراء هو جريمة بكلّ المقاييس. تخلّص المغرب من الاستعمار الإسباني لصحرائه واستعاد أرضه. قضيّة الصحراء قضيّة مفتعلة من ألفها إلى يائها. هي قضيّة من صنع النظام في الجزائر بغية متابعة حرب الاستنزاف التي يشنّها على المغرب، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بفلسطين. لو كانت الجزائر حريصة بالفعل على الصحراويّين، لكانت أوجدت لهم كياناً على أرضها. فهم موجودون في شريط يمتدّ من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر. يمرّ هذا الشريط بجنوب الجزائر. لماذا هذا الإصرار على الاعتداء على المغرب وصحرائه بدل اعتماد المنطق والتعقّل؟
لو قرأ النظام الجزائري، الذي يتحكّم به العسكر، رسالة القمّة الخليجيّة بدقّة لكان تخلّى عن كلّ المناورات التي يقوم بها هذه الأيّام مستفيداً من توفّر بعض المال له نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز
يفترض في النظام الجزائري، الذي يبدو أنّه لا يتقن سوى لعبة الهرب من أزماته الداخلية إلى التصعيد مع المغرب، قراءة الرسالة الخليجيّة جيّداً. فبعدما فتحت دول عدّة، من بينها الإمارات العربيّة المتحدة والبحرين، قنصليّات لها في الصحراء المغربيّة، جاء بيان قمّة الرياض الذي يؤكّد “مغربيّة الصحراء” ليقطع الطريق على أيّ تفكير في الاستمرار في جريمة الربط بين الصحراء وفلسطين… حتّى لو كان ثمن ذلك مساعدة بقيمة مئة مليون دولار من الجزائر إلى السلطة الوطنيّة الفلسطينية التي زار رئيسها محمود عبّاس (أبو مازن) الجزائر أخيراً.
إذا كان الموقف الخليجي لا يكفي النظام الجزائري، فعليه التطلّع إلى التغيير الذي طرأ على الموقف الألماني أخيراً. حاولت ألمانيا، أهمّ دولة في الاتحاد الأوروبي، قبل بضعة شهور، ممارسة ألاعيب مع المغرب. ردّ المغرب فوراً عن طريق تغيير طريقة التعاطي مع السفير الألماني في الرباط. استعادت ألمانيا رشدها وأيّدت خطة المغرب القاضية بحلّ قضية الصحراء في إطار الحكم الذاتي الموسّع، أي أنّها اعتمدت الخيار المغربي الذي يبقى الخيار الأفضل لسكان الأقاليم الصحراوية. هؤلاء لا يتركون فرصة تمرّ، كما حصل في الانتخابات التشريعية الأخيرة في المملكة المغربيّة، إلّا ويظهرون فيها ولاءهم للمغرب. كانت نسبة المشاركة في تلك الأقاليم النسبة العليا في المملكة.
في استطاعة النظام الجزائري، الذي يبدو مصرّاً على المكابرة في موضوع الصحراء، الاستعانة أيضاً بموقف أربع دول أوروبيّة قرّرت تعميق التعاون مع المغرب. هذه الدول هي هنغاريا وبولندا وتشيكيا وسلوفاكيا التي التقى وزراء الخارجية فيها أخيراً وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة في بودابست. للدول الأربع وزنها الأوروبي. يكشف موقفها أنّ المغرب بالنسبة إليها مدخل إلى إفريقيا، وأنّ ملفّ قضية الصحراء أصبح مطويّاً بالنسبة إليها.
سيناور الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في الأشهر القليلة التي لا تزال تفصل عن قمّة الجزائر. مشكلة تبّون الذي زار تونس أخيراً، محاولاً وضعها في الجيب، أنّه ليس سوى واجهة لنظام عسكري عانى ولا يزال يعاني من عقدة المغرب.
إقر أيضاً: مشكلة النظام الجزائريّ… مع شعبه
هل من أمل في أن يفهم النظام الجزائري أن لا قمّة عربيّة يستضيفها في حال أصرّ على شروطه. إذا انعقدت مثل هذه القمّة لن يتمكّن من تمرير الحدّ الأدنى من هذه الشروط. السبب واضح. الطفل يعرف أنّ قضيّة الصحراء قضيّة مفتعلة، وهي حرب جزائريّة، تُشنّ بالواسطة، على المغرب. معظم العرب مع المغرب. الشعب الجزائري نفسه يعرف أنّ النظام في ورطة ويهرب إلى خارج حدوده، لأنّ مثل هذا الهرب هو اللعبة الوحيدة التي يتقنها.
لعبة الهرب إلى التصعيد مع المغرب لا تنطلي على الجزائريين، بدا ذلك واضحاً من خلال تصرّف الجمهور واللاعبين الجزائريين في مباراة كرة القدم بين الفريقين المغربي والجزائري في الدوحة. هناك أخوّة بين الشعبين المغربي والجزائري. لا يعترف النظام الجزائري بهذه الأخوّة لسبب في غاية البساطة. يعود السبب إلى رفضه التصالح مع شعبه أوّلاً… وأخيراً.