ماذا بقي من المارونية السياسية؟

مدة القراءة 6 د

في البداية، فإنّ ما يسري على المارونية السياسية، يسري أيضاً على السنيّة السياسية، وعلى الشيعية السياسية. لكن لـ”ضرورات المرحلة”، فإنّ هذا المقال يتناول المارونية، ويمكن إسقاطه على زميلتيها.

أيضاً في البداية، يجب أن نتفق على أنّ النظام اللبناني انتهى، أيّاً كان اسمه. وهذا المفهوم ليس نهائياً بعد. نحن وسط انهيار اقتصادي، مرفق بانهيار مصرفي وانهيار في مالية الدولة. ونحن وسط انهيار سياسي. لا أحد يريد أن يتحدث معنا في الشرق والغرب. ونحن وسط انهيار في العقد الاجتماعي. مجلس الوزراء معطّل، ومجلس النواب، كما الحكومة، تعطّلا أكثر مما عملا في آخر 10 سنوات. ورئيس الجمهورية لا أحد يريد الحديث معه، في الداخل والخارج.

النظام انتهى، ونحن ضحايا انهياره المدوّي، من كلّ الجوانب، ولا إنعاش فرنسي سينفع معه، ولا انتخاباتٍ نيابية ستعيد الحياة إلى شرايينه. إذا فاز حزب الله سيحكم كما هو حاكم منذ انتخابات 2018، وإذا خسر سيشنّ انقلاباً كما فعل حين خسر في انتخابات 2009. ولا ينفع بعد اليوم إبقاء القوى الأمنية والجيش على أجهزة التنفّس الاصطناعي الأميركية.

يجب أن يكون ميشال عون آخر رئيس ماروني. وإلا فإنّ حشرجات المارونية السياسية ستظلّ تنفض الجسد اللبناني، وسنظلّ عالقين في آخر أنفاسها

أمّا بعد. فثمة سؤال “وقح”، لكنّه لا ينفكّ يخطر على بال كثيرين: “إذا بقي في لبنان مارونيّ واحد، ويعاني من خلل ما، هل سيكون هو رئيس جمهورية لبنان؟”.

قد يقول قائلٌ إنّ فتح باب “تغيير النظام” يخدم حزب الله في هذا التوقيت. لكنّ الإجابة لا تحتاج إلى كثير من الفطنة. راقبوا سعر صرف الدولار. أنظروا إلى حجم الكتلة البشرية التي وقعت خلال سنتين تحت خطّ الفقر. راقبوا المؤشرات الحيوية للدولة والمجتمع والاقتصاد. هل هذا نظام على قيد الحياة؟ أم أنّنا نقترب من اللادولة، بشكل كامل؟

لذا سأعيد طرح السؤال بشكل آخر:

لماذا على رئيس لبنان أن يكون مارونيا حصراً. أليس النظام المذهبي نظاماً عنصرياً بكلّ أشكاله؟ ألا يحمل عنصرية فاقعة؟ وألم “يكربج” هذا النظام منذ سنوات طويلة؟

هل يستحقّ شخصٌ أن يتولّى منصباً رسمياً، أيّاً كانت كفاءاته وأخلاقه وخياراته وذكاؤه أو ارتهانه، فقط لأنّه ولد على المذهب الفلاني؟

لِنَعُد إلى لحظة التأسيس التي لم نغادرها.

كان مسيحيو لبنان، في لحظة تأسيس الكيان، صنو الغرب. كانوا حبلاً غليظاً يربطنا بالحضارة الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. حبلٌ يربطنا بالحضارة المتقدّمة، علماً وتعليماً وثقافةً وعلاقاتٍ سياسية واقتصاداً، في لحظة انهيار الخلافة العثمانية وخروج العرب والمسلمين من متن أوتوستراد التاريخ إلى هامشه.

كان لبنان محظوظاً بأن استلمت النخبة المسيحية، المارونية تحديداً، قيادته في السنوات اللاحقة على نهاية الحرب العالمية الأولى. وكان المسلمون، سنّةً وشيعةً، لا يزالون على قدر أقلّ من التعليم والكفاءات والخبرات.

لماذا على رئيس لبنان أن يكون مارونيا حصراً. أليس النظام المذهبي نظاماً عنصرياً بكلّ أشكاله؟ ألا يحمل عنصرية فاقعة؟ وألم “يكربج” هذا النظام منذ سنوات طويلة؟

وبلا طول سيرة: اليوم أين هي تلك النخبة؟

لنذهب إلى النخبة المارونية، العونية تحديداً، التي تحكمنا منذ 10 سنوات، أو قل منذ 10 وزراء عونيين في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الثانية، عام 2011.

ألم تخرج تلك النخبة أيضاً من متن التاريخ، حين اختارت الوقوف إلى جانب دول متخلّفة، حضارياً وسياسياً وعلمياً واقتصادياً، هي إيران وسوريا، واستطراداً جغرافياً: فنزويلا.

فلماذا نستمرّ في الموافقة على أن تظلّ تلك الأقلية المتقلّصة هي صاحبة الاصطفاء العنصري الذي يسمح لأي مختلٍّ منها أن يصل إلى قصر بعبدا. ولماذا يظل هذا القصر مارونياً حصراً، وقد صار موارنة حزب الله هم المرشحون الوحيدون للإقامة فيه، منذ ستّ سنوات، وإلى ستّ أو 12 سنة آتية؟ مع انحسار التنافس الرئاسي بعد ميشال عون، بين الإيراني السوري جبران باسيل، والسوري سليمان فرنجية.

كيف نقبل أن تنحسر منافسة حكمنا وحكم لبنان لستّ سنوات آتية وربما 12 و18، أي لأجيالٍ وأجيال، بين هذين الشخصين، لمجرد أنّهما ولدا مارونيين على الهويّة؟ ما هذه العنصرية السياسية؟ ولماذا ابن أيّ قارىء لا يتسنّى له منافسة ابن سليمان فرنجية أو ابن جبران باسيل على حكم لبنان؟ أرثوذكسياً كان أو درزياً أو شيعياً أو سنيّاً أو كاثوليكياً؟ طبعاً إذا توافرت فيه الكفاءة والنضوج اللازمين.

نهاية لبنان المسيحي

السطور أعلاه لا تطالب بإنهاء لبنان المسيحي. هذا اللبنان انتهى. حاول اتفاق الطائف أن ينقذ ما أمكن منه. لكنّ القوات السورية والحكم السوري جعلا من الطائف مطيّة لنهب لبنان وحكمه بالحديد والنار. حاول رفيق الحريري أن يصنع نهضة عمرانية وسياسية واقتصادية تستعيد بعض ملامح لبنان المسيحي، الماروني سياسياً. فقتلوه. ومنذ اغتياله لم يأتِ أحدٌ بفكرة واحدة، غير مشروع القتل والاغتيال والمشاركة في حروب عربية، ومشروع التهجير الذي “طربشه” ميشال عون ونائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم، الأوّل بأنّ “الي مش عاجبو يفلّ”، والثاني بأنّ “اللي مش عاجبو لبنان المقاومة يهاجر”.

حين بدا لبنان “مسيحياً” بين دول عربية ذات أكثريات مسلمة، وذات أنظمة ديكتاتورية وعسكرية وقمعية، كان حلم يقظة غربياً. سويسرا الشرق قالوا عنه، في إسقاط لأجمل أنظمة أوروبا، وأكثرها حياداً خلال حربين عالميتين. أسقطوا الاسم على قطعة من شرق ملتهب بالحروب والصراعات والمذاهب والهويات القاتلة. وحشونا كتب التاريخ لنعلم أطفالنا أنّ لبنان الجديد هو “صلة الوصل بين الشرق والغرب”.

اليوم صرنا قطعة من جغرافيا إيران. هجرنا الغرب والعرب حتّى. دبي وجدة ونيوم وقطر، دول ومدن التجربة والأحلام والتقدم، تسابق الغرب اليوم. الإمارات أوّل حكومة لاورقية في العالم. نيوم ستكون أول مدينة في العالم تدار بالذكاء الاصطناعي وبالطاقة النظيفة كليّاً. وقطر تستضيف كأس العالم بعد أشهر. فيما بيروت بلا كهرباء ولا ماء ولا مواصلات عامة ولا مرفأ، وتكاد تخلو من المواد الغذائية.

فماذا بقي من الحلم المسيحي للبنان؟ وماذا بقي من ظلالنا الأوروبية، ذات النكهة المسيحية؟

نحن في لبنان إيراني. وإيران استثمرت في الموارنة واستمالتهم وأحكمت سيطرتها على كبارهم حتى الآن.

إقرأ أيضاً: الجملة المفتاح لميقاتي في السعودية: “لبنان دولة تصدِّر الإرهاب”

لماذا لا نوسّع البيكار ونصعّب المهمة على إيران. لماذا لا نفتح اللعبة السياسية، المقفلة، من خلال المداورة في الرئاسات وفي المناصب الكبيرة. ألن تفقد إيران القدرة على تحديد من هو رئيس لبنان؟

لو كان الدور في رئاسة الجمهورية سنيّاً هذه المرّة، ألن يكون المرشّحون أوسع من ثنائية “عون – فرنجية”؟ سيكون هناك سعد الحريري ونجيب ميقاتي وموديل حسّان دياب، ونهاد المشنوق وفؤاد السنيورة وتمام سلام… والأمر نفسه ينطبق على بقية المذاهب. لن تستطيع إيران أن تحكم قبضتها على التنوّع في كلّ المذاهب والطوائف والمناطق كما فعلت مع زعماء الموارنة.

الرئيس المذهبيّ بدعة يجب أن تنتهي.

يجب أن يكون ميشال عون آخر رئيس ماروني. وإلا فإنّ حشرجات المارونية السياسية ستظلّ تنفض الجسد اللبناني، وسنظلّ عالقين في آخر أنفاسها. 

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…