قبل نحو سنة وثمانية أشهر، قدّرت شركة لازارد، في خطّة حكومة الرئيس حسان دياب، خسائر القطاع المصرفي الإجماليّة بنحو 83 مليار دولار. يومها توزّعت قيمة هذه الخسائر المقدّرة بين قيمة الدولارات التي بدّدها مصرف لبنان من أموال المودعين في تثبيت سعر الصرف وتمويل التحويلات إلى الخارج، وبين كلفة إعادة هيكلة الدين العامّ عبر الاقتصاص من قيمة السندات المملوكة من المصارف لخفض الدين إلى معدّلات مستدامة ومنطقيّة. وشملت هذه القيمة أيضاً ديون القطاع الخاص التي تعثّرت بفعل الأزمة. والجدير بالإشارة أنّ بعض الدراسات الأخرى قدّرت قيمة هذه الخسائر بنحو 77 مليار دولار في خلاصة قريبة لتقديرات لازارد.
اليوم، يعلن نائب رئيس الحكومة اللبنانيّة أنّ رقم الخسائر الذي تمّ التوصّل إليه في خطّة الحكومة الماليّة، التي يجري إعدادها حاليّاً، بلغ حدود 68 أو 69 مليار دولار، وهو ما يقلّ بنحو 15 مليار دولار عن الأرقام التي توصّلت إليها لازارد منذ نحو سنة وثمانية أشهر. تكمن المفارقة الكبرى في أنّ مصرف لبنان تكبّد خسارة إضافيّة تقارب قيمتها 14.45 مليار دولار بعدما أصدرت لازارد تقديراتها في نيسان 2020، نتيجة الاستمرار بتمويل التحويلات ودعم استيراد السلع الأساسيّة.
من المرتقب أن يعيد استمرار تدهور سعر صرف الليرة حسابات المعنيّين مراراً وتكراراً لأنّ كلّ انخفاض في قيمة الليرة سيعني ارتفاع قيمة فجوة العملات الصعبة مقابل قيمة الناتج المحلّي الإجمالي
بمعنى آخر، كان من المفترض أن ترتفع الخسائر بقيمة 14.45 مليار دولار، بدل أن تنخفض بقيمة 15 مليار دولار، الأمر الذي يشير إلى أنّ المقاربات الجديدة قلّصت قيمة الخسائر التي تتعامل معها بنحو 29.45 مليار دولار، وهذا ما يحتّم السؤال عن نوعيّة التعديلات التي طرأت على تقديرات الخسائر.
في الواقع، وبحسب العديد من المصادر المتابعة لعمل اللجنة، فإنّ هذا الانخفاض في قيمة الخسائر التي تتعامل معها الخطّة يأتي مزيجاً من عدّة تعديلات قامت بها اللجنة الوزاريّة المكلّفة بإدارة ملفّ التفاوض مع صندوق النقد، ومنها:
أوّلاً: خفض قيمة الاقتصاص من قيمة سندات اليوروبوند (سندات الدين بالدولار) في إطار إعادة هيكلة الدين العام، والتغاضي عن إجراء أيّ اقتصاص في قيمة سندات الدين بالليرة اللبنانيّة. وهذا الإجراء كفيل بخفض الخسائر التي سيتمّ تحميلها للرساميل المصرفيّة في إطار التعافي المالي، لكنّه سيعني عمليّاً زيادة قيمة الدين العام التي سيتمّ الإبقاء عليها بعد إعادة هيكلة الدين.
ثانياً: خفض قيمة الخسائر المتوقّعة من تعثّر قروض القطاع الخاص، بالاستناد إلى مسألتين:
1- حجم القروض التي تمّ سدادها بالفعل منذ نيسان 2020، جرّاء تجارة الشيكات وبيع العقارات بالشيكات المصرفيّة لسداد القروض.
2- ونوعيّة الضمانات التي ما زالت قائمة في مقابل هذه القروض المصرفيّة، والتي يمكن استعمالها لسداد القروض بالطريقة نفسها.
يُشار إلى أنّ نسبة كبيرة من القروض المدولرة التي تمّ سدادها بالليرة وبسعر الصرف الرسمي يفترض أن تنعكس كزيادة في خسائر مصرف لبنان، لأنّ المصرف المركزي عمل على تغطية عمليّات الصرف هذه بالسعر المدعوم في ميزانيّته.
بحسب العديد من المصادر المتابعة لعمل اللجنة، فإنّ هذا الانخفاض في قيمة الخسائر يأتي مزيجاً من عدّة تعديلات قامت بها اللجنة الوزاريّة
ثالثاً: اعتماد مقاربات أكثر تساهلاً في احتساب فجوة العملات الصعبة الموجودة في القطاع المصرفي، وخصوصاً مصرف لبنان، والتي تمثّل الفارق بين التزامات القطاع للمودعين بالعملات الأجنبيّة (أي الودائع) وبين ما تبقّى من أصول قابلة للتسييل بهذه العملات. وهذه الحقيقة يمكن تلمّسها من نشرة جمعيّة المصارف الأخيرة، التي أشارت إلى أنّ الأوساط الحكوميّة تقدّر هذه الفجوة بنحو 60 مليار دولار فقط لا غير، في حين أنّ لازارد كانت قد قدّرت في نيسان 2020 هذه الفجوة بنحو 62 مليار دولار، يُفترض أن يضاف إليها الـ14.45 مليار دولار التي أنفقها مصرف لبنان من احتياطاته منذ ذلك الوقت. وبذلك، يمكن القول إنّ الخطة الحكوميّة الجديدة تساهلت باحتساب 16.45 مليار دولار من الخسائر المحقّقة نتيجة فجوة العملات الصعبة.
من الناحية العمليّة، سيمثّل عدم الاعتراف بكامل فجوة العملات الصعبة نكراناً وحسب لجزء أساسي من الأزمة القائمة، التي سيتمّ الإبقاء عليها في الميزانيّات بانتظار تحميلها للمودعين بشكل من الأشكال، بل الاعتراف بها ومعالجتها بشكل جذري من ضمن الخطّة التي يتمّ العمل عليها.
وهكذا سيكون خفض خسائر إعادة هيكلة الدين على حساب الدولة، في حين أنّ خفض خسائر فجوة العملات الصعبة سيكون على حساب المودع وقيمة الليرة اللبنانيّة، خصوصاً إذا استهدف المصرف المركزي التعامل مع هذه الفجوة عبر طبع النقد لسداد قيمة الودائع المدولرة بالليرة، كما يجري اليوم. وفي الحالتين، سنكون أمام تحميل المجتمع بأسره جزءاً أساسياً من كلفة التصحيح المالي. أمّا الإشكاليّة الكبرى فهي ما نقلته جمعيّة المصارف عن المعنيّين في النشرة نفسها من أنّ لدى الدولة اتّجاهاً لتحمّل كلفة إعادة رسملة المصرف المركزي وسداد فجوة العملات الصعبة التي تمّ تحديدها، وهو ما يعني تحميل عمليّات الخصخصة والشراكة مع القطاع الخاص، أي الأموال العامّة، الكلفة الكبرى لإعادة تعويم القطاع المصرفي.
إقرأ أيضاً: لولار الـ8 آلاف: أدرينالين للمودعين.. وكارثة للبنانيين
على أيّ حال، من المرتقب أن يعيد استمرار تدهور سعر صرف الليرة حسابات المعنيّين مراراً وتكراراً لأنّ كلّ انخفاض في قيمة الليرة سيعني ارتفاع قيمة فجوة العملات الصعبة مقابل قيمة الناتج المحلّي الإجمالي، ناهيك عن زيادة التعقيدات التي سينطوي عليها توحيد أسعار الصرف، والتخلّص من أسعار الصرف المتعدّدة المعتمدة في السحوبات النقديّة بالليرة من المصارف. ولهذا السبب، من المفترض أن تواجه اللجنة الوزاريّة التي تُعدّ الخطّة حاليّاً العديد من المصاعب في التخطيط لمعالجة الخسائر، بعدما أنجزت مقاربات احتسابها.