لم يعد ممكناً الحديث عن فلسطين إلا بعنوانين: غزّة والضفّة، أو: نظام فتح ونظام حماس. وتقع تحت هذين العنوانين آلاف التفاصيل التي أنتجت مأساة عمرها عقد ونصف، واسمها الانقسام. وهذه مفردة مخفّفة عن الانفصال، وأنتجت واقعاً قريباً من الاستحالة، وهو تحقيق الحدّ الأدنى من الوحدة الوطنية.
تجمّدت الجهود التقليدية التي بذلتها دول عديدة لسبب وحيد هو غياب الرافعة الفلسطينية، التي توفّر نجاحاً. ورأينا دولة إقليمية عظمى هي مصر، ودولة كونية أعظم هي روسيا، وقد فشلتا ليس في استعادة الوحدة، وإنّما في وقف تدهور العلاقات بين طرفيْها. وها هي الجزائر ذات الإيقاع الإيجابي الخاصّ لدى طرفيْ الانقسام تعلن استعدادها للمحاولة على أمل أن تنجح في ما فشل فيه الآخرون.
غزّة الآن تستقبل صقيع الشتاء بلهيب السياسة، من دون تقدُّم في أيٍّ من الملفّات التي تجسّد حالتها، ولم يعد انتقاد جميع الأطراف المعنيّين بهذه الملفّات والعاملين عليها من الأشقّاء والأصدقاء يتمّ بالهمس، وإنّما بأعلى الصوت
في غزّة معادلة أرهقت الغزّيّين على الدوام، وهي أنّ حروب إسرائيل عليها تتمّ غالباً في الصيف، حيث السماء الصافية المواتية لحركة الطائرات الحربية، والشمس الساطعة المواتية لتحديد الأهداف، والدمار شبه الشامل الذي يتعامل الغزّيّون معه بافتراش الأرض والتحاف السماء، وقضاء إجازات قسرية طويلة على شاطئ البحر انتظاراً لإعادة الإعمار، والعودة إلى المنازل المهدّمة أو الآيلة إلى الهدم.
في كلّ مكان على وجه الأرض يحبّ الناس الشتاء الماطر، إلا في غزّة. فأهلها يقضون الصيف وهم خائفون من الشتاء، وكثيراً ما يكون الشتاء الفلسطيني كالسياسة شديد البرودة وقليل المطر، وفي كلتا الحالتين ليس الشتاء محبوباً لدى مَن يقضونه في العراء.
المواطن الغزّيّ قليل الكلام والشكوى من أمر معاناته شظف العيش في غياب الحدود الدنيا لمتطلّباته. غير أنّ الذين يتحدّثون كثيراً عن ذلك هم القادة السياسيون الذين لا يسمحون لأيّ صوت بأن يعلو على صوتهم. وهؤلاء حتى لو رغبوا فهُم لا يستطيعون التراجع عمّا يفعلون، فهم ممتلئون يقيناً بأنّهم يقومون بعمل مجيد، واستطلاعات الرأي العاطفية توافقهم على ذلك.
غزّة الآن تستقبل صقيع الشتاء بلهيب السياسة، من دون تقدُّم في أيٍّ من الملفّات التي تجسّد حالتها، ولم يعد انتقاد جميع الأطراف المعنيّين بهذه الملفّات والعاملين عليها من الأشقّاء والأصدقاء يتمّ بالهمس، وإنّما بأعلى الصوت.
أمّا الضفّة التي تبدو الأمور الحياتية فيها أقلّ سوءاً ممّا هي عليه في غزّة، فإنّها تستقبل الشتاء القارس البرد والقليل المطر وأهلها يرون تحطّم الأحلام وتبعثرها من خلال الغياب المطلق لآفاق الحلول لمصلحة حضور قويّ للاستيطان والقتل.
ومع التعوّد على تراجع الوضع الاقتصادي عموماً، إلا أنّ السلطة لا تتمكّن من دفع كامل الرواتب لجيش الموظّفين الذي يزيد عديده على مئة وثمانين ألفاً. ومعظمهم كيّف حياته مع راتبه القليل بصعوبة. وها هو مُطالَب بأن يحسم 25% من متطلّبات حياته كي يقطع المسافة الطويلة والصعبة بين أوّل الشهر وآخره، خصوصاً في شتاء صقيعه يحتاج للتغلّب عليه إلى نفقات إضافية، ولا لزوم للحديث عن كورونا ومتحوِّلاتها، فهي كأس يدور على كلّ الناس.
إقرأ أيضاً: فلسطين وإسرائيل.. السلام المستحيل
كم سيكون هذا الشتاء قاسياً!! وكم سيكون صقيعه لاهباً!! هكذا تُنبئ تطوّرات الأمور في بلاد الانقسام والاحتلال المسمّاة فلسطين. وهكذا يحلّ الشتاء المرحَّب به في كلّ مكان إلا في بلاد العنوانين التي تختلف عن كلّ الكون بأنّ شتاءها صقيعٌ مناخيّاً ولهيبٌ سياسيّاً، ودلّونا على أيّ مكان في الكون يشبه هذا المكان باستثناء توائم المأساة في زمن الربيع العربي في مشرق الوطن الكبير ومغربه.