ظهر في مدريد إجماع دوليّ وعربيّ على المشاركة قبل انعقاد المؤتمر وأثناءه، وظهر في واشنطن فيما بعد تبنٍّ دوليّ غير مسبوق لِما نتج عن محادثات أوسلو السرّيّة، التي كانت بديلاً عمليّاً عن تعثّر مدريد.
ما إن شاهد العالم المصافحة التاريخية بين عرفات ورابين، حتى تسابقت قواه الفعّالة على تقديم الدعم للمحاولة، ورُصِدت مبالغ طائلة للإنفاق عليها كي تحقّق ما كان مستحيلاً على مدى عقود.
لم تكن أوسلو اتّفاقات وتفاهمات سياسية مؤقّتة فحسب، بل كانت إلى جانب ذلك تأهيلاً لولادة نظام سياسي فلسطيني جديد يكون قادراً على النهوض بمسؤوليّاته حيال متطلّبات العلاقة السلميّة المستجدّة مع الإسرائيليين، وصار عند الفلسطينيين برلمان منتخب تحت مسمّى المجلس التشريعي، ومجلس وزراء ووزارات سُمِّيت بحكومة السلطة، ورئاسة منتخبة باقتراع سرّيّ فاز فيه ياسر عرفات بنسبة 88% من الأصوات.
ومن أجل إنجاح التجربة لم يبقَ زعيم ذو شأن على مستوى العالم إلا وزار غزّة ورام الله، لتدشين المشروع التاريخي الذي يؤمل منه انتهاء الصراع في بؤرته المركزية الفلسطينية الإسرائيلية، وشيء كهذا لم يكن ليُرى حتى في الأحلام.
كان توقّع النجاح بلغ نسبة عالية تشير إلى استحالة الفشل. و”ربّما” للمرّة الأولى في التاريخ يُستفتى شعب ليس على حقيقة، وإنّما على وعد، وبفعل الرغبة فاز الوعد.
في حالة أوسلو، إمّا أن يبلغ النجاح الأهداف المرجوّة، وإمّا أن يبلغ الفشل حدّ تحوُّل كلّ الأمنيات إلى عكسها تماماً، وهذا ما نحن فيه الآن.
يواجه الفلسطينيون معضلة لم يسبق أن واجهوا مثلها منذ بداية قضيّتهم وعلى مدى كفاحهم الصعب والمجيد من أجل عدم الاستسلام
فشلت أوسلو الفلسطينية بواقعها ووعودها، وأوسلو الإسرائيلية بقيت بمتحوِّلاتها ومزاياها. أمّا أوسلو الدولية فقد نُسيَت تماماً. غير أنّ الحقيقة الأكثر حضوراً ووضوحاً هي أنّ الفشل أدّى إلى وفاة فكرة التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، واستحالة إعادة الحياة إليها حتى لو تضافر الكون كلّه من جديد على العمل من أجل هذه الغاية.
حين يموت مشروع سياسي وتتحوّل الآمال إلى عكسها، فما هو البديل الذي يتمخّض عن ذلك؟ إذا وضعنا في الاعتبار أنّ السياسة كالمادّة لا تفنى وإنّما تتحوّل، فنحن الآن نعيش التحوُّل الذي آلت إليه المحاولة الكبرى، ويمكن تحديده بالعناوين التي تتولّى الوقائع المَعيشة شرحها لمن يرغب بالمزيد.
خسارات الفلسطينيين أولاها انتهاء مشروع النظام السياسي الجديد الذي تبلور في السنوات الأولى من مشروع أوسلو، وغطّاه ياسر عرفات قائد الثورة والتسوية، وانتهاء مبدأ الأرض مقابل السلام لمصلحة مبدأ جديد هو التسهيلات الاقتصادية مقابل الحقوق السياسية.
ويتجسّد الآن انتهاء الوحدة الوطنية الفلسطينية، التي صمدت تاريخياً أمام كلّ التحدّيات، في وجود كيانين في وطن واحد، وبرنامجين لقضية واحدة، وانتماءين إلى معسكرين متباينين ومتصارعين لدرجة الاحتراب في أكثر من مكان.
وما ضاعف وقع وتأثير مفاعيل انتهاء المحاولة الكبرى مدريد-أوسلو، هو انفضاض العرب من حول التجربة الذي أدّى أخيراً إلى الانقلاب الأعمق والأهمّ، وهو تراجع مكانة القضية الفلسطينية والفلسطينيين لمصلحة تعزيز مكانة إسرائيل وتقدّمها على المكانة الفلسطينية حتى في قلب الحاضنة الطبيعية العالم العربي.
أخطر ما في الأمر أنّ الطبقة السياسية الفلسطينية لم تعترف بعد بسقوط التجربة وتحوّلها إلى عكسها، فما تزال رهاناتها قائمة كما لو أنّها حيال مشروع متعثّر يمكن إصلاحه.
إقرأ أيضاً: نظرة على أوسلو.. من مسافة 28 سنة
يواجه الفلسطينيون معضلة لم يسبق أن واجهوا مثلها منذ بداية قضيّتهم وعلى مدى كفاحهم الصعب والمجيد من أجل عدم الاستسلام. وما يضاعف من مفاعيل هذه المعضلة أنّ طبقتهم السياسية لم تدرك بعد أنّ أولى شروط الخروج من المآزق هو الاعتراف بوجودها. وهذا أمر، عند الطبقة السياسية المتشبّثة التي تعتبر نفسها الثابت الوحيد في الحياة السياسية الفلسطينية، لم يجرِ التفكير فيه.