سألني صديق عزيز: ما الفرق بين سعد ونجيب؟
اعتقد صديقي أنّني سأُجري المقارنة وفقاً لمعايير المال والثروة، أو شبكة العلاقات الدولية والعربية التي يمتلكها الرجلان. أجبته من حيث لم يتوقّع، قائلاً: “خلف نجيب شقيقٌ مثل الجبل اسمه طه، فيما خلف سعد شقيقٌ يشابه الوادي اسمه بهاء”.
يستند نجيب ميقاتي منذ بداية حياته السياسية وحتى التجارية إلى دعم شقيقه طه، لدرجة أنّ البعض يذهب إلى القول بانحياز المحبّ إلى طه إنّ “كلّ ما عليه نجيب هو بفضل طه”، فيما المحبّون والمقرّبون للشقيقين يقولون: “مش قاسمين. هكذا تربّيا، وهكذا عملا في التجارة والسياسة، وطبعاً في الشؤون العائلية”. ويروون أنّه في جنازة والدتهما قاما معاً بقيادة سيارة الإسعاف التي تحمل نعش الفقيدة الكبيرة، رافضيْن أن يقودها رجل آخر، فجلسا أحدهما إلى جانب الآخر والدموع تملأ الأعين والأحداق. ويروي النائب نهاد المشنوق في مقالة له، مؤرّخاً يوم وفاة والدة الرئيس نجيب ميقاتي في صحيفة السفير في 30 نيسان 2007 تحت عنوان “عادوا أطفالاً”، فيقول: “الصوت يصدح في مبنى الميقاتي .. لا إله إلا الله. لا إله إلا الله. منذ ثلاثة أيام خرجت الحاجّة سعاد من منزلها في بيروت إلى مثواها الأخير في طرابلس.
يروي المطّلعون أنّ التبنّي الفرنسي لنجيب هو نتاج علاقات طه في العاصمة الفرنسية باريس، بفعل عمق شبكة علاقاته مع دوائر القرار السياسي والأمنيّ في فرنسا في ظلّ حكم إيمانويل ماكرون
يتسابق الأولاد والأحفاد على حملها بعدما حملتهم لسنوات وسنوات. لا يريدون لها أن تأخذ برَكتها معها. لولا قضاء الله وقدره لطلبوا أن تبقى هي وبركتها. لكنّ إيمانهم يمنعهم.
الرئيس ميقاتي المحاط بكلّ ما يمكن للدنيا أن تعطيه، يبكي سائلاً الله ثمّ إيّاها أن يرحمها ويرحمه، “مَن قال لك إنّني كبرتُ…”، وتأخذ الغصّة بقية الرجاء.
طه الأب الكبير يفتّش في حاجّته الكبيرة عن الأمّ والشقيقة والصديقة. ويسأل الطبيب من دون كلل مرّات ومرّات هامساً: أما كان من الممكن إنقاذها في الدقائق القليلة التي سبقت وداعها للدنيا. يجيبه الطبيب بثقة: ذهبت إلى ربّها راضية مَرضيّة بهدوئها ووقارها. يعود طه إلى سؤاله مرّة جديدة.
ودّعت طرابلس الحاجّة سعاد بمحبّة مرّتين، مرّة لأنّها ذكّرت أهلها بالأمّ القادرة على ضبط الإيقاع العائلي والأخلاقي لخمس سيّدات ورجلين وما خرج عنهما، ومرّة ثانية لأنّها قرّرت الحاجّ نجيب للسياسة، وتركت لهم أبوّة طه، بعدما عاد الميقاتيون بكبارهم وصغارهم أطفالاً وهم يودّعون حاجّتهم”.
وما هو سائد عند الجميع أنّ ما يلتزم به طه يُلزم نجيب، وما يلتزم به نجيب يكون بمشورة طه.
عمل طه ليلاً ونهاراً كي يصل نجيب إلى السراي الحكومي. في المرّة الأولى عام 2005، وفي المرّة الثانية عام 2010، وفي المرّة الثالثة عام 2021. وهو لا يزال بالهمّة والحماسة نفسيْهما يعمل ليلاً ونهاراً كي يبقى نجيب في السراي.
يروي المطّلعون أنّ التبنّي الفرنسي لنجيب هو نتاج علاقات طه في العاصمة الفرنسية باريس، بفعل عمق شبكة علاقاته مع دوائر القرار السياسي والأمنيّ في فرنسا في ظلّ حكم إيمانويل ماكرون. يعمل نجيب ويمارس أموره مدركاً مطمئنّاً أنّ جبلاً خلفه اسمه طه، فإن تعب أسند ظهره إليه، وإن عصفت به رياح السياسة والأيام تمسّك به ولجأ إليه وكلُّه ثقة أنّه لن يتبدّل أو يزيح أو يهتزّ.
بالمقابل، منذ اغتيال والده الرئيس الشهيد، تلقّى سعد الحريري من العائلة دعماً اقتصر على بيان لا قبله ولا بعده أذاعته السيّدة نازك عام 2005، وأعلنت فيه تكليف سعد القيادة السياسية خلفاً لوالده ليغيب الدعم بعد هذا البيان.
اتّسمت علاقة سعد الحريري مع العائلة بالتناحر والتجاذب وفقدان الاتصال، مقتصرةً على مجموعة من الدعاوى القضائية والتسويات المالية حتى هذه اللحظة، ويصحّ في توصيف هذه العلاقة قولُ الشاعر اللبناني الكبير طلال حيدر في قصيدته الشهيرة: “من كتر ما كبر العشب بيناتنا بيرعى الغزال”.
شعر سعد الحريري في السنوات الأخيرة، مع بروز طموحات شقيقه بهاء إلى العمل السياسي، أنّ خلفه وادياً سحيقاً مهدّداً أن يسقط فيه كلّ آن، ويسعى بهاء ويتمنّى أن يدفعه إليه كي ينتزع الراية السياسية منه. ولأجل هذه الغاية استقطب بعض الغاضبين والتائهين من جمهور أخيه والتيار الأزرق، ومعهم ثلّة من الإعلاميين في زمن البحث عن “الفريش دولار”، تارةً عبر المنتديات التي انتهت باشتباك بين مناصري الشقيقين عند ضريح الرئيس الشهيد في ذكرى اغتياله الرابعة عشرة في 14 شباط من عام 2019، وتارةً أخرى عبر الجمعيّات، وآخرها “سوا”، والمفارقة هنا أنّ “سوا” شعار اتّخذه رئيس النظام السوري بشار الأسد في حملته الانتخابية الأخيرة، وتارةً ثالثة عبر وسائل الإعلام وفقاً لنظام الفاتورة حتى باتت المعادلة تقوم في الأوساط الشعبية من عكار في الشمال حتى كفرشوبا في أقاصي جبال الجنوب أنّ سقوط سعد هو إنجاز لبهاء.
حكاية سعد مع بهاء ليست وليدة اليوم أو الأشهر القليلة الماضية، بل بدأت منذ اغتيال الرئيس الشهيد، أو ربّما قبل ذلك
لا يترك بهاء الحريري أيّ فرصة أو اقتراح يساعده على تحقيق مبتغاه. فتراه يركب على ظهر ثورة 17 تشرين معلناً محاربة الفساد، ثمّ يحاول التحالف في بيروت مع أحد رموز الفساد، ثمّ يعلن افتتاح مكتب لجمعيّته في صيدا رافعاً شعار التغيير وإنقاذ المدينة التي تمثّلها عمّته منذ عشرات السنوات.
حكاية سعد مع بهاء ليست وليدة اليوم أو الأشهر القليلة الماضية، بل بدأت منذ اغتيال الرئيس الشهيد، أو ربّما قبل ذلك. ومن ضمن حكاية الأخوين هذه ما يرويه العديد من الشهود من أنّ بهاء قصد في 7 أيار 2008 قصر قريطم المحاصَر بالميليشيات المعادية لشقيقه وتيّاره ليطالبه بمبلغ كبير يدين له به شقيقه سعد. فطلب منه سعد الانتظار بضعة أيام كي تهدأ الأحوال، فما كان من بهاء إلا أن قال له: “وماذا إن قُتلت، فكيف أحصل حينها على مالي..؟!”، فطلب سعد من مساعديه إحضار المال وإعداد أوراق التسوية وبراءة الذمّة، فقبض بهاء المال وغادر القصر المحاصَر إلى برّ الأمان.
نجيب ميقاتي في مسيرته السياسية، سواء كنت من المؤيّدين له أو من المعارضين، يستند إلى معادلة صلبة اسمها “تحالف الأشقّاء”. فيما سعد الحريري في مسيرته السياسية اصطدم بمعادلة قاتلة اسمها “الأشقّاء الأعداء” وكأنّ قدر هذا الرجل هو خسارة كلّ شيء، الثروة والأصدقاء والحلفاء وصولاً إلى الأشقّاء.
إقرأ أيضاً: يا معشر الناس لا تصدِّقوهما
نظرت إلى وجه صديقي فوجدته أصفر الوجه سارحاً، لا ينطق بكلمة، ثمّ نظر إليّ وكأنّه استفاق قائلاً: “اسمع قول خالق العباد عندما خاطب موسى عليه السلام فقال:{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} سورة القصص، الآية 35.