صورتان جمعت بينهما جائزة وزارة الخارجية الأميركية لمكافحة الفساد للعام 2021، حين قدّمتها إلى الزميل رياض قبيسي “عن تقاريره المرتبطة بالفساد في مرفأ بيروت”.
الصورة الأولى:
يحمل رياض مكبّر الصوت في 2013، ويصرخ تحت مكتب المدير العامّ للجمارك شفيق مرعي: “أستاذ شفيق، معي إذن من وزير المال لمقابلتك، هناك عمليات تهريب تحدث في مطار بيروت، لماذا لا تريد أن تردّ علينا؟”.
بعدها هاجم مرافقو مرعي رياض، وتسبّبوا له بأذى جسدي أمام عدسات الكاميرات. في ذلك العام، 2013، كان النظام اللبناني، المصرفي والأمني والسياسي، في عزّ جبروته. وكان قليلون مستعدّين لمواجهته. وكان رياض واحداً منهم، بل وفي صفوفهم الأمامية.
الصورة الثانية:
لا ينساها اللبنانيون: لحظة تفجير مرفأ بيروت.
حين انفجر المرفأ في آب 2020، كثيرون تذكّروا رياض قبيسي. فإذا صحّت نظرية “الإهمال” الإداري والسياسي، أو نظرية التفجير الأمنيّ، فإنّ تفجير المرفأ لم يكن ممكناً لولا تغلغل الفساد في أجهزة الدولة، وتحديداً في مرفأ بيروت. وكان رياض قد انتبه باكراً، قبل 7 سنوات من التفجير، إلى أنّ الفساد يجب مواجهته لحماية لبنان واللبنانيين.
رياض “مُلهماً للشباب”
كان رياض رائداً في مواجهة الفساد في لبنان، قبل أن ينتبه معظم اللبنانيين إلى أنّ الفساد هو عدوّهم المشترك، بدل العداوات المذهبية والمناطقية والسياسية فيما بينهم، وأنّ الفساد لا طائفة له.
بدأ نشاطه الصحافي في العام 2000. وفي 2008 بدأ أوّل سلسلة استقصائية في لبنان والمنطقة. كان ذلك قبل سبع سنوات من حراك 2015 بعنوان “طلعت ريحتكم”، الذي فتح باب “مكافحة الفساد” أمام الشارع اللبناني في نسخته الجديدة. كان رياض متقدّماً سبع سنوات.
وفي 2013، حين بدأ عمله الاستقصائي عن مرفأ بيروت، كان متقدّماً سبع سنوات أيضاً، كما قالت السفارة الأميركية في بيروت بعد إعلان الجائزة: “قبيسي بدأ سلسلة تحقيقات عن التهريب في المرفأ قبل سبع سنوات من تاريخ الانفجار الهائل الذي عصف بالمرفأ، وعمله الرائد ألهم الشباب في لبنان والشرق الأوسط”.
كانت واحدة من جمله المفضّلة: “افتح يا سمسم”. وقد دقّ طويلاً على أبواب القضاء والإعلام والسياسيين، ولم يفتح له أحد. لأنّ سطوة “علي بابا والأربعين حرامي” كانت ولا تزال أقوى من سحر “افتح يا سمسم”.
لهذا أصابت الجائزة حين ربطت صورة 2013 بصورة 2020. بالتأكيد كان رياض ولا يزال “مُلهماً للشباب في لبنان والشرق الأوسط”. فهو الرائد في الصحافة الاستقصائية. حاز اعترافاً قلّ نظيره في العالم العربي. لم يبدأ بجائزة “الصحافي المتقصّي” في العام 2011 من “مؤسسة طومسون”، مروراً بجائزة مؤسسة “أريج” عن “التحقيقات الاستقصائية العربية المتميّزة” في عامي 2013 و2015. وقد مرّ هذا التكريس بجائزة “الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الدولية للتميّز في مكافحة الفساد” في 2020، وصولاً إلى الجائزة التي أعلنها وزير الخارجية الأميركي شخصيّاً أمس الأوّل.
يقول قبيسي لـ”أساس” إنّ هذه الجائزة معنوية وأقدّرها. لكن أنا وفريقي عملنا لسنوات على ملفّات كثيرة لمكافحة الفساد، وكلّها لم تصل إلى أيّ نتيجة في القضاء
ماذا تريد أميركا؟
أن يعلن وزير الخارجية عن الجائزة، واضعاً رياض قبيسي إلى جانب 11 شخصيّة من حول العالم، ساهم كلٌّ منها في مكافحة الفساد، إن في القضاء أو السياسة أو الإدارة أو الإعلام، فهذا يعني أنّها رسالة سياسية.
وهنا لا يمكن إغفال الدور الأساسي لقناة “الجديد”، التي فتحت الشاشة على مصراعيها لمغامرات رياض وفريقه، وتحمّلت الكثير في حماية تجربته وإنضاجها، قبل أن يتحوّل شعار “مكافحة الفساد” إلى موضة في الإعلام اللبناني.
لا يمكن فصل هذه الرسالة عن السياق اللبناني. ففي لحظة فرض العقوبات على شخصيات لبنانية بتُهَم الفساد، تأتي هذه الجائزة لتعلن أنّ أميركا باتت لها سياسة واضحة في لبنان. فبعدما عرّفت خصومها بأنّهم مَن تطولهم قوانين “مكافحة الإرهاب” و”قيصر” و”ماغنتسكي”، ها هي قد بدأت بتحديد “حلفائها” الموضوعيين، أو بكلام آخر، الشخصيات و”البروفايل” الذي ترغب بتعميمه في لبنان.
إقرأ أيضاً: جريمة المرفأ: سرّ إخفاء السرّ
ورياض ليس بعيداً عن كلّ هذا الكلام. بل هو قال، في مقابلات عديدة، إنّه “إذا كان الغرب صادقاً في مكافحة الفساد، فعليه أن يدعم المؤسسات الرقابية داخل الدولة اللبنانية”. ويقول لـ”أساس” إنّ “هذه الجائزة معنوية وأقدّرها. لكن أنا وفريقي عملنا لسنوات على ملفّات كثيرة لمكافحة الفساد، وكلّها لم تصل إلى أيّ نتيجة في القضاء. لذا أدعو الإدارة الأميركية، التي تدعم تاريخياً الحكومات المتعاقبة في لبنان، وبعدما استنفدنا كلّ الوسائل في الداخل، إلى دعم مكافحة الفساد من خلال فرض عقوبات على سياسيين ومقاولين أو موظفين حكوميين، بسبب تورّطهم في قضايا فساد في لبنان، وذلك بمعزل عمّا إذا كانت هذه الشخصيّات مصنّفة عدوّةً أو صديقةً للولايات المتحدة”.