لم يكن “حزب الله” في حاجة إلى الإعلان المباشر عبر قناة قطرية عن إعطاء الضوء الأخضر لاستقالة جورج قرداحي من الحكومة. لكنّ الحزب تعمّد ذلك قبل ساعات من وصول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى جدّة للقاء وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ليقول الحزب للفرنسيين إنّه قدّم تنازلاً وينتظر منهم “تسييل” الثمن مع السعوديين.
تخلّى نائب الأمين العامّ لـ”حزب الله” نعيم قاسم، في مقابلته مع تلفزيون “العربي” القطري، عن الرفض القاطع لاستقالة قرداحي، بالقول إنّ “صاحب القرار الأول والأخير (في شأن الاستقالة) هو قرداحي نفسه”، معلناً “تأييد الحزب لأيّ قرار يتّخذه”. لم يكن في الأمر شيء من الخفّة السياسية، وإن بدا ظاهره كذلك، بل كان استخفافاً خالصاً بالعقل السياسي الفرنسي، وهو بلا شكّ استخفاف يسوِّغه الوهم الفرنسي بأنّ استقالة الرجل تصلح أن تكون مادّة لصفقة مثلّثة مع السعودية وإيران. غير أنّ الخفّة كانت في أجواء الاحتفاء في بعض الإعلام اللبناني بالاستقالة، بوصفها توطئة لصفقة ناجزة.
بدا الوهم الفرنسي واضحاً في طلب الاستقالة ابتداءً، ثمّ في تصريح ماكرون في جدّة بأنّ لبنان “أخذ بعين الاعتبار مطالب السعودية المتعلّقة بتهريب المخدّرات وموضوع استقالة قرداحي”، من دون أن يأتي على ذكر الأدوار العسكرية والأمنيّة التي يقوم بها “حزب الله” في إطار الحروب الإيرانية على دول الخليج في الإقليم. ومن اللافت أن يتشابه اختزال ماكرون لمشكلة السعودية مع لبنان بهذين البعدين مع اختزال أكبر قدّمه نعيم قاسم الذي لم يأتِ على ذكر المطالب السعودية في كلّ ما يتعلّق بوقف التعدّي على أمن دول الخليج، بل اختصر الأمر كلّه في “طلب (سعودي) مباشر بأن يستقيل قرداحي من دون أيّ وعد أو بدل”.
انتهى الوهم الفرنسي حين رسّمت الرياض حدود موقفها السياسي تجاه لبنان، فتحوّل إلى موقف سعودي – فرنسي عكسه البيان المشترك، وفيه ست ثوابت يمكن أن تصبح مرتكزاً لا يصحّ الخروج عنه في أيّ تحرّك دولي تجاه لبنان:
1- التمسّك باتفاق الطائف.
2- الإصلاحات، ولا سيّما في القطاعات التي قاوم فريق رئيس الجمهورية ميشال عون الاقتراب منها.
3- مراقبة الحدود.
4- حصر السلاح بيد الدولة، وألا يكون لبنان منطلقاً لأيّ أعمال إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة.
5- ألا يكون مصدراً لتجارة المخدّرات.
6- وتطبيق قرارات مجلس الأمن 1559 و1701 و1680.
لم يأتِ ماكرون على ذكر أيّ من العناوين الأربعة الأخيرة في تصريحاته في جدّة، وكان قبل ذلك قد تقصّد تجاهلها خلال زيارتيْه للبنان، بُعيد انفجار المرفأ وفي احتفال مئوية لبنان الكبير، ولم يُنقَل عنه شيء في صددها في أيٍّ من الاجتماعات التي استضافها الإليزيه أو أجراها مبعوثوه في بيروت.
الفارق بين تصريح ماكرون في جدّة والبيان المشترك السعودي – الفرنسي هو الفارق بين أوهام “البراغماتية” السياسية الفرنسية تجاه إيران، وبين الحدود السياسية التي رسّمها الموقف السعودي
فما الذي تغيّر؟
لعلّ الفارق بين تصريح ماكرون في جدّة والبيان المشترك السعودي – الفرنسي هو الفارق بين أوهام “البراغماتية” السياسية الفرنسية تجاه إيران، وبين الحدود السياسية التي رسّمها الموقف السعودي.
لا يمكن قراءة التحوّل في الموقف الفرنسي إلا في الإطار الأوسع للعلاقة بطهران، والعلاقات مع المحور العربي. ففرنسا كانت أقرب الدول الغربية إلى طهران في مفاوضات 5+1 في عهد باراك أوباما، وكانت الوفود الفرنسية الأسرع وصولاً إلى طهران لفتح الأسواق الإيرانية حتى قبل أن يبدأ رفع العقوبات في ذلك الحين. وحين مزّق دونالد ترامب الاتفاق النووي، رمت باريس بكلّ ثقلها لتأسيس آليّة لتسوية المدفوعات تتيح لأوروبا مواصلة العلاقات التجارية والاستثمارية مع إيران من دون الممرّ الإلزامي الأميركي. وحين عادت إدارة جو بايدن إلى المفاوضات كانت فرنسا الأكثر حماسةً، ولا تزال، قبل أن تصل مفاوضات فيينا إلى حائط مسدود آخر.
غير أنّ اعتبارات أخرى تزاحم الأولويّات الفرنسية الآن، في غمرة سعيها المحموم إلى حجز أوسع مساحة ممكنة من النفوذ يتيحها الانحسار الأميركي عن منطقتنا. ففي السنوات الماضية وسّعت فرنسا علاقاتها في المنطقة كما لم يسبق لها منذ سبعة عقود، فازدادت مبيعاتها العسكرية لمصر ودول الخليج، ومكّنتها تحالفاتها مع المحور العربي من التأثير في الملف الليبي، وفي محاصرة التمدّد التركي في شرق المتوسط. ولا حاجة إلى القول إنّ المصالح الاقتصادية لفرنسا مع دول الخليج لا تُقارن بنظيرتها مع إيران. يكفي أنّ الصادرات السنوية للشركات الفرنسية إلى السعودية تربو على 4.5 مليارات دولار.
تلك مكاسب ومصالح لا تضاهيها رومنسية “الأمّ الحنون” أو وهم براغماتية “الانخراط مع إيران”.
إقرأ أيضاً: ماكرون السعودي: دَفعة لسياديّي لبنان؟
لربّما يُظهر البيان الفرنسي السعودي أنّ باريس اختارت، وفي خيارها ما يرتّب انعكاسات على الواقع السياسي اللبناني، ويوفّر فرصة للقوى الرافضة للهيمنة الإيرانية لتقول إنّ خطابها لم تتجاوزه الأولويّات الإقليمية والدولية. ولذلك أتى الردّ من إيران (و”حزب الله”) بإطلاق الصواريخ الباليستية في اتجاه الرياض بعد ساعات فقط من إقلاع طائرة ماكرون من جدّة. وترافق ذلك مع حملة تهويل داخلياً على مَن يريد العودة إلى خطاب الرفض لهيمنة سلاح الحزب على القرار السياسي.
لا تقبل إيران بأقلّ من تسليم لبنان إليها ليكون القاعدة المتقدّمة في حروب الوكالة، وأظهرت وقائع السنوات الماضية اللبنانيين حقيقة لا مراء فيها بأنّ التسليم لإيران، تحت عناوين مثل “ربط النزاع” مع الحزب” أو حكومات الوحدة الوطنية أو غير ذلك، يمكن أن يمنع تكرار 7 أيار إلى حين، لكنّه لا يبني بلداً طبيعياً، ولا يُبقي على شيء من لبنان القديم.