الجماعة السياسية ليست الدولة، ولا الهويّة الوطنية، لكنّها (أي الجماعة السياسية) مرتكز للاثنتين معاً. وتؤكّد المنظّرة السياسيّة حنّه آرنت على الجغرافيا لا بمعنى قطعة أرض فحسب، بل بمعنى الجغرافيا السياسية التي تتمسّك بها الجماعة السياسية كمجال عامّ لتنظيم نفسها. وقد توافرت هذه الجغرافيا السياسية للإمارات عبر صيرورة تاريخية تشكّل خلالها ما يمكن الإطلاق عليه الجماعة السياسية. وتعتبر الجغرافيا السياسية الرديف الجسدي لفكرة الجماعة السياسية التي قد تُمحى من الذاكرة عبر السنوات الطويلة. وتمثّل الجغرافيا السياسية الوعاء لمجموعة المُثُل والأفكار التي صاغت الجماعة السياسية.
وكما سنرى فإنّ تطوّر الجماعة السياسية في الإمارات ارتبط برقعة جغرافية احتضنت مجموعات سكانية لم تكن تشكّل جماعة سياسية بعد، لكنّ تحوّل هذه الرقعة إلى جغرافيا سياسية منحت الفرصة لتشكيلها. وتقول آرنت إنّ الجغرافيا السياسية ليست قطعة أرض يسكنها أشخاص فحسب، لكنّها مسرح للممارسات التي تشكّل الوعي الجمعي للجماعة السياسية. فتصبح الجغرافيا السياسية، بخلاف الأرض التي تمنحها الطبيعة أو قطعة الأرض التي ينتجها العمل الإنساني، رقعة مستحوذة سياسياً. وأخيراً، كما يحتاج الفرد إلى مجاله الخاص لتطوير نفسه، فإنّ الجماعة السياسية تحتاج إلى مجال يتمثّل في جغرافيا سياسية تطوِّر من خلالها أنظمتها ومؤسساتها وهويّتها الوطنية.
انعدام الجماعة السياسية هو أساس القلاقل التي تشهدها دول العالم النامي على الرغم من وجود ما يمكن الإطلاق عليه أمّة أو دولة
وتتوارى أهميّة المفهوم في تحديد تطلّعات وآفاق الكيانات السياسية، بل إنّ استقرار هذه الكيانات يعتمد على تشكّل ونضج الجماعة السياسية. وهناك علاقة جدلية بين الكيان السياسي والجماعة السياسية اللذين يتعاضدان ويؤثّر أحدهما على الآخر. ونرى هذا جليّاً في حالة الإمارات وتطوّرها من خلال كيان سياسي تجلّى في دولة مستقلّة. وكما كتب ندّاف صفران في كتابه “مصر والبحث عن جماعة سياسية”، فإنّ الجماعة السياسية لا تكون قائمة أو مستقرّة إلا إذا وُجِدت على أرضية مشتركة من القيم والمبادئ والأعراف، أي نظام متكامل من المعتقدات.
إنّ أهميّة المفهوم، أي الجماعة السياسية، تكمن في تأطير التطوّر السياسي لجهة تشكّل الأمّة والدولة. ولعلّ انعدام الجماعة السياسية هو أساس القلاقل التي تشهدها دول العالم النامي على الرغم من وجود ما يمكن الإطلاق عليه أمّة أو دولة. فالجماعة السياسية هنا تهتمّ بتقديم إطار فكري لتكوين الدولة والأمّة، وتحدّد حدودها وماهيّتها. ولذلك لا يمكن تكوين مرادف، على الرغم من تداخل المفاهيم عند مستوى معيّن، لا للأمة ولا للدولة. والجماعة السياسية مفهوم مستقلّ يجب معالجته في سياقه التاريخي.
كان الفضاء، الذي يسكنه خليط من القبائل العربية على الساحل وفي المناطق الداخلية، لا يتميّز بتصنيف سياسي على الرغم من أنّ هذه المجموعات البشرية طوّرت سلطة سياسية ونظام حكم في حدود معيّنة. ومع مجيء البريطانيين إلى المنطقة بدواعي محاربة القرصنة (وهي تهمة أطلقها البريطانيون على المنطقة التي عُرِفت بساحل القراصنة “Pirate Coast”، وفنّدها الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، في كتابه الشهير “أسطورة القرصنة العربية في الخليج”)، دخلت المنطقة مرحلة جديدة من التطوّر السياسي. وما يهمّنا في الموضوع أنّ المنطقة، بعد توقيع المعاهدة العامّة للسلام مع بريطانيا عام 1820، عُرِفت بإمارات الساحل المتصالح (Trucial States). وقد منحت هذه المعاهدة إقليم الساحل هويّة جغرافية سياسية جديدة لم تتّسم بها المنطقة فحسب، بل حدّدت خصائصها مقابل الكيانات الأخرى في المنطقة. وبهذا التحديد لجغرافيا سياسية في حدود ما رسمه تعاظم النفوذ البريطاني في المنطقة، تشكّل الوعي (أو قل الظروف الذاتية) لتحقيق الجماعة السياسية. وقد شملت هذه المعاهدة كلّ إمارات الساحل، مؤذنةً بتشكّل هذه الجغرافيا السياسية، لكن من دون تحديد حدودها كما في الدول المعاصرة.
وقد أدّى تطوّر المؤسسات إلى تعزيز تطوّر الجماعة السياسية في المنطقة. ولعلّ أهمّ هذه التغيّرات ظهور قوّة مسلّحة عُرِفت بكشّافة عمان ومثّلت نواة لجيش نظامي. وقد كانت المجموعات المتعلّقة باستكشافات النفط تتعرّض لهجوم من بعض الجماعات المسلّحة، فكان ذلك سبباً إلى إنشاء فرق حماية تطوّرت إلى جيش نظامي فيما بعد. ولم يكن هذا التطوّر ذا أهمية من ناحية تشكيل قوات مسلّحة للدولة العتيدة وحسب، بل إنّ من أهمّ صفات الدولة احتكارها للوسائل الشرعيّة للعنف، كما يقول عالم الاجتماع الأشهر ماكس فيبر، الذي يعرِّف الدولة بأنّها منظمة قسرية تحتكر وسائل العنف في رقعة جغرافية معيّنة.
وتظلّ المؤسّسة الأهمّ في صياغة الجماعة السياسية هي مجلس حكّام الإمارات المتصالحة لأنّه جمعهم في إطار واحد لمناقشة مستقبل المنطقة. وكانت هذه المؤسسة النواة لتشكيل دولة اتحادية تضمّ كلّ إمارات الساحل. وقد أُسِّس هذا الجسم السياسي الكبير في 1952، وحُلَّ مع قيام دولة الاتحاد في 1971. وقد ذكر المقيم السياسي حينها إنّ إقامة هذا المجلس سيقوّي من تعاضد الحكام بشكل كبير على الرغم من تباعد المسافات، ويُنشئ الثقة بينهم فيما يتعاملون بعضهم مع البعض الآخر.
إقرأ أيضاً: الإمارات بعد 50 عاماً… نقطة مضيئة في الظلام العربي
والخلاصة أنّ تتبّع تطوّر الجماعة السياسية في دولة الإمارات، عبر استعراض سريع لتاريخ الدولة الحديث، ما هو إلا، كما يقول فرناند بروديل، تحصيل مجموع التواريخ المحتملة. والسؤال ليس عن صحّة السرد التاريخي بقدر ما هو عن مدى رفدنا بمعلومات لم نكن نعرفها. وهنا تكمن أهمية الجماعة السياسية في فهم تطوّر دولة الإمارات وغيرها من الدول.