أمس في الرابع من كانون الأول كان عيد القديسة بربارة . تلك القديسة التي تعود إلى القرون الأولى للمسيحيّة. ترافق احتفالات المسيحيّين بعيدها في لبنان، كما في سوريا والعراق وفلسطين، طقوسٌ وتقاليد، أبرزها التنكّر والتطواف في الشوارع والأحياء. ويعود السبب إلى أنّ الصبيّة بربارة، التي سجنها والدها الوثنيّ في برجٍ خوفاً عليها لشدّة جمالها، تعرّفت إلى الإيمان المسيحي على يد مدرِّسها، وهربت بعدما لوّنت وجهها وتنكّرت بثياب عتيقة، و”هشلت” في البراري والحقول مختبئة بين سنابل القمح من والدها وحرّاسه. من هنا عادة سَلق القمح في هذا العيد.
في كتابه “العادات والتقاليد اللبنانية” يكتب لحد خاطر عن طقوس وعادات عيد البربارة: “عشيّة العيد يتألّب الشبّان والصبية مواكب، ويطوفون على المنازل متنكّرين بوجوه مسودّة أو ذات براقع اصطناعية مستغرَبة، وبملابس ذريّة بأرداف طويلة وتهاويل مدهشة”. هذا ما اعتدنا عليه في طفولتنا. فكانت والدتي ترسم على وجوهنا بالألوان وتُلبسنا ثياباً قديمة لوالدي أو “شروال” جدّي وطربوشه. نرتديها ونطوف في الحيّ متنقّلين من منزل إلى آخر مطبّلين مزمّرين، ونرقص منشدين: “بربارة بربارة والقمح بالكواره، يا معلّمتي حلّي الكيس الله يبعتلك عريس”. وإذا أعطتنا صاحبة البيت بعض القروش (في ذاك الزمن كان للقرش قيمة) أو الحلويات نغنّي لها: “شيحة فوق شيحة، صاحبة البيت مليحة”. ومسكينة تلك التي لم تكن تقدّم شيئاً. فكنّا نصرخ بوجهها: “قطيعة يا قطيعة، صاحبة البيت بشيعة” (أي بشعة، قبيحة)، ونهرب.
ما يميّز العولمة اليوم هو هيمنة الحضارة الغربية، والأميركية خاصة، على باقي الحضارات، حتى العريقة منها
قبل الفرز الديموغرافي الديني والطائفي الذي سبّبته الحرب اللبنانية كان سكّان الحيّ المسلمون، على اختلاف مذاهبهم، يعيشون معنا هذا التقليد. يفتحون لنا الأبواب لنطبّل ونزمّر ويقدّمون لنا الحلويات.
يطغى يوم “هالوين” (31 تشرين الأول) على عيد البربارة، كما يطغى العديد من الأعياد الغربية، والأميركية تحديداً، وتقاليدها على مناسباتنا وعاداتنا وتقاليدنا نتيجة للعولمة. في الأصل “هالوين” هو عيد نهاية السنة الذي يصادف نهاية موسم الحصاد وبداية فصل الشتاء لدى الشعب الإيرلندي الكِلتيّ (أو السلتيّ Celte). وكان اسم العيد “Samain“. ويعود إلى أكثر من 2500 سنة. بحسب المعتقدات الإيرلندية الوثنية، تزول في هذا اليوم الحواجز بين عالم الأموات وعالم الأحياء، ويصبح التنقّل ممكناً بين العالمين. في النصف الأول من القرن التاسع عشر، هاجر الإيرلنديون إلى الولايات المتحدة الأميركية، ونقلوا معهم العيد وأسطورة جاك، الرجل السكّير الذي تحدّى الشيطان بألاعيبه، وطُرِد من الجنّة وأصبح هائماً يحمل شمعة وضعها في قلب لِفتة كي لا تنطفئ. في أميركا تحوّل اسم العيد إلى “هالوين” (من “All Hallows Eve” أي “ليلة جميع القدّيسين”) لأنّ المناسبة الإيرلندية تصادف ليلة عيد جميع القدّيسين (الأول من تشرين الثاني)، وأصبح رمزه يقْطينة فيها ثقوب توحي بوجه مخيف (رمز للأموات الزائرين لعالم الأحياء)، وشمعة مضاءة. وأصبح عيداً وطنياً في نهاية القرن التاسع عشر.
منذ ثلاثة عقود أصبح “هالوين” مناسبة عالمية نراها في مختلف دول العالم. في شهر تشرين الأول من كلّ سنة، يسيطر اللون البرتقالي على واجهات المحلّات التجارية. وتُعرض فيها الأقنعة المخيفة. في دبي كان “هالوين” استثنائياً هذه السنة. فقد أحيا فريق من العازفين المناسبة بمجموعة من الموسيقى الإيرلندية التقليدية في “إكسبو دبي 2020”. انتشار هذه المناسبة عالمياً، كما العديد غيرها، يعود إلى ظاهرة العولمة التي تسيطر عليها الولايات المتحدة الأميركية بشكل كبير. إنّها جزء من “القوّة الناعمة” (Soft Power) الأميركية.
أدركت بعض الشعوب والقوميّات أخيراً خطورة العولمة على حضورها ومعتقداتها وعاداتها وتقاليدها، فراحت تبحث عن السبل لحماية نفسها من الذوبان
إنّ تفاعل الحضارات فيما بينها ظاهرة قديمة في تاريخ البشرية. في البداية كان هذا التفاعل نتيجة احتلال أرض فيها شعوب وقوميّات وأديان مختلفة يفرض عليهم المحتلّ لغته ومعتقداته وثفاقته وعاداته. فيما بعد، ومع تطوّر وسائل النقل وحركة التجارة العالمية، بخاصة بين الشرق والغرب، أصبح التفاعل أكبر بين الحضارات والثقافات والشعوب. لذلك يعيد بعض الباحثين والمفكّرين بداية العولمة إلى القرن التاسع عشر.
ولكن منذ ثمانينيّات القرن الماضي، مع بداية العولمة، أصبح هذا التفاعل أكثر شموليّةً جغرافيّاً وأسرع زمنيّاً. لم يعد مقتصراً على شعب محتلّ يسيطر على مجموعة شعوب، ولا على شعوب تتبادل تجاريّاً فيما بينها. إنّما أصبح شاملاً للكرة الأرضية بكلّ دولها وشعوبها وقوميّاتها وحضاراتها. من هنا تعبير “القرية الكونية”. وهو أصبح سريعاً في الزمن. إذ يكفي أن تنشأ ظاهرة فنيّة أو اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو دينية أو رياضية، حتى تنتشر في اللحظة ذاتها في كلّ العالم تتداولها الشعوب وتردّدها وتقلّدها. وهذا يعود طبعاً إلى تطوّر وسائل الاتصال والإعلام. وفي بداية القرن الحالي ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي، التي هي ثورة في قلب الثورة التكنولوجية، في تطوّر العولمة بشكل كبير.
ما يميّز العولمة اليوم هو هيمنة الحضارة الغربية، والأميركية خاصة، على باقي الحضارات، حتى العريقة منها. وهذا يعود إلى قيادة الولايات المتحدة الأميركية لـ”الثورة التكنولوجية”، إضافة إلى قوّتها السياسية والعسكرية والإعلامية والاقتصادية والماليّة. فموقع “غوغل” الأميركي، الذي نستقي منه المعلومات، هو الأوّل عالميّاً. وشركات مايكروسوفت وآبل وأمازون الأميركية هي الأولى عالميّاً، كلٌّ منها في قطاع عملها. وشركات وسائل التواصل الاجتماعي، التي خلقت التواصل المباشر بين سكّان الأرض، هي أميركية. واللغة الإنكليزية – الأميركية هي لغة العالم. ونظام التعليم الجامعي الأميركي هو المعتمَد في غالبيّة جامعات العالم. ونظام الحوكمة الأميركي هو المعتمَد في إدارة الشركات العالمية والمتعدّدة الجنسيّات. وأصبحت طريقة عمل المؤسّسات الإعلامية الأميركية معتمَدة في العديد من وسائل الإعلام العالمية. وتحتلّ الأفلام الأميركية الشاشات الكبيرة والصغيرة في العالم، تنقل طريقة عيش الأميركيين التي تقلّدها كلّ شعوب الأرض… إلخ. وقد أدركت بعض الشعوب والقوميّات أخيراً خطورة العولمة على حضورها ومعتقداتها وعاداتها وتقاليدها، فراحت تبحث عن السبل لحماية نفسها من الذوبان.
دول العالم العربي، كغيرها من الدول، جزء من “القرية الكونية”. إذا كانت أوروبا شريكة الولايات المتحدة الأميركية في العولمة، وكانت دول جنوب شرق آسيا تحاول أن تكون فاعلة فيها من خلال اقتحام عالم التكنولوجيا تصنيعاً وتطويراً، فإنّ الدول العربية هي متلقّية للثقافة الغربية، والأميركية تحديداً، فحسب. والسبب أنّ العرب منذ عصر الأنوار (في أوروبا) حتى الثورة التكنولوجية، مروراً بالثورة الصناعية، كانوا مترجمين للأفكار والفلسفات الحديثة ومستهلكين للمنتجات الصناعية الغربية. واليوم يستعملون الآلات التكنولوجية التي يخترعها الغرب ويصنّعها في دول جنوب شرق آسيا. لا تشير الحروب، التي تفجّر اليوم الدول العربية ومجتمعاتها، إلى أنّ الشعوب العربية سيكون لها دور فاعل في العولمة في القادم من السنوات والعقود. وهذا خطير جداً على الحضارة العربية.
إقرأ أيضاً:2021: هل هو عالم ما بعد أميركا حقاً؟!
لم يحتفل “مالك” بعيد “هالوين” منذ شهر. احتفل أمس بعيد البربارة. أكل القمح المسلوق ورقص على أغنية صباح: “هاشلي برباره مع بنات الحارة…”. إنّها طريقة للحفاظ على عاداتنا وتقاليدنا مع الانفتاح على حضارات الشعوب والتفاعل معها في إطار العولمة.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية