“ثَمن استقالة جورج قرداحي اتصال هاتفي”! هكذا تختصر شخصيّة بارزة تطوّرات الساعات الماضية بين الرياض وبيروت.
فالاتّصال الثلاثي، الذي ضمّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووليّ العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وما سبقه وتلاه من بيانات، لم يؤدِّ عمليّاً إلى أيّ خرق جدّيّ على مستوى الأزمة الحكومية والعلاقات اللبنانية الخليجية، حتى مع احتمال عودة سفراء الدول الخليجية إلى بيروت وإمكانية تخفيف القيود الاقتصادية. ووفق المعلومات، لم يكن ميقاتي إطلاقاً في جوّ هذا الاتصال، وقد فوجئ به، مع العلم أنّ مدّته كانت دقائق قليلة.
يقول قريبون من برّي إنّ “رئيس المجلس لا يريد تكرار الإشكالية حول نصاب التصويت عند إقرار التعديلات على قانون الانتخاب، وهو اليوم بند عالق أمام المجلس الدستوري
لم يكن أصلاً عنوان الأزمة مع دول الخليج تصريحات وزير الإعلام، وعمرها هو من عمر التسوية الرئاسية ما قبل 2016. يومئذٍ كان سفراء الدول الخليجية، المنسحبون اليوم من الملعب اللبناني، “يَنغلون” في الداخل، والشاحنات اللبنانية ناشطة استيراداً وتصديراً مع دول الخليج، لكن تحت سقف أزمة حادّة بلغ الأمر حدّ إدارة الظهر الكاملة للبنان، وكان من “ضحاياها” سعد الحريري، ثمّ تجاهل حكومة نجيب ميقاتي، وصولاً إلى حصر دعم لبنان، بعد الاتصال الثلاثي، بـ”المساعدات الإنسانية”.
يقول متابعون إنّ “الرياض ترى أنّ حكومة ميقاتي، من حيث كونها جسماً وزارياً، تقبع تحت السيطرة الكاملة لحزب الله، والدليل هو التعطيل المنظّم منذ أسابيع للحكومة، وتقديم وزير الإعلام استقالته بناءً على إشارة من الحزب”.
والأهمّ أنّ هذا “الخرق” الشكليّ أتى ضمن الحسابات الرئاسية الفرنسية ربطاً باستحقاق الرئاسة الفرنسية الربيع المقبل وبأجندة المصالح الفرنسية، وسيبقى رهن العلاقات الفرنسية-الإيرانية والسعودية-الإيرانية.
وقد تضمّن البيان الفرنسي-السعودي المشترك وبيان الديوان الملكي ما يكفي من مؤشّرات تدلّل على “أصل” المشكلة المتمثّل بحصر السلاح بمؤسّسات الدولة الشرعية وتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، مع تغييب كامل لدعم الحكومة القائمة ورئيسها، وإلزامها بكلّ ما من شأنه تعزيز العلاقات مع المملكة ودول مجلس التعاون الخليجي، بحيث لا “يكون لبنان منطلَقاً لأيّ أعمالٍ إرهابية تزعزع أمن واستقرار المنطقة، ومصدراً لتجارة المخدِّرات”.
وسُجِّلت في هذا الإطار، بُعَيْد ساعات قليلة من الإعلان عن الاتصال الثلاثي، المواقف الهجومية لقناة “المنار”، التي تحدّثت عن التطوّرات الميدانية في تعز اليمنية وتداعياتها، متسائلة “عن ديمومة حَبل الاتصال الذي مدّه ماكرون بين الأمير السعودي وميقاتي، وهل يكفي الدعم بالبيانات من دون رفع الحصار والتعامل بندّيّة واحترام؟”.
وأمس دعا حزب الله مجدّداً عبر الوزير السابق محمد فنيش الحكومة إلى أن “تعالج الخلل الذي أدّى إلى عدم اجتماع مجلس الوزراء، والمتمثّل بأداء القاضي البيطار الذي تجاوز الصلاحيّات الدستورية، ويعمل باستنسابية ويستغلّ ويوظّف جريمة انفجار المرفأ والضحايا، فضلاً عن الخضوع لشعبويّة ما من أجل إلحاق الضرر وتحميل المسؤولية لجهة سياسية”.
وبدا الخرق في المشهد اللبناني-الخليجي منفصلاً بالكامل بنتائجه عن أزمة الحكومة وتموضع أفرقاء الداخل حيالها الذي لا يزال على حاله.
من جهة أخرى، يلتئم مجلس النواب الثلاثاء وعلى جدول أعمال جلسته التشريعية نحو 30 اقتراح قانون، ليس من ضمنها أيّ بند مرتبط بالتحقيق بانفجار المرفأ. فمَسار فصل التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت عن ملفّ ملاحقة الرؤساء والوزراء والنواب لا يزال عالقاً عند رفض تصويت التيار العوني لمصلحة وضع المجلس الأعلى يده على الملفّ، على الرغم من موقف الرئيس ميقاتي الداعم لهذا الفصل التزاماً بالاتفاق الأوّليّ الذي حصل بين الرؤساء الثلاثة والبطريرك الراعي، والذي “انقلب” عليه باسيل، وفق تأكيدات رئيس الحكومة والثنائي الشيعي.
ويقول قريبون من برّي إنّ “رئيس المجلس لا يريد تكرار الإشكالية حول نصاب التصويت عند إقرار التعديلات على قانون الانتخاب، وهو اليوم بند عالق أمام المجلس الدستوري. وحتى الآن الغالبية المطلوبة من أجل عريضة الاتّهام النيابية غير متوافرة، وحين تتوافر لن يكون هناك مشكلة، ولن يتوقّف برّي عند موضوع الميثاقية بسبب وجود نواب مسيحيّين يتمتّعون بالحيثيّة المسيحية المطلوبة”.
يرى مواكبون للأزمة الحكومية أنّ عون “باستطاعته وضع حدٍّ لهذا الوضع الشاذّ. وإذا كان مخوّلاً دستورياً السهر على حسن سير القضاء، فمن واجباته الدستورية أن يتصدّى لـ”حالة قضائية” نافرة
لكن يبدو أنّ بري لا يزال يراهن على أن تأتي الخطوة الأولى من جانب القضاء ويتلقّفها مجلس النواب. وفي هذا السياق، تتحدّث معلومات عن اقتراحٍ ستبادر إليه شخصية سياسية-قانونية، بالتنسيق مع الرؤساء الثلاثة، قد يفضي إلى هذا الخرق على المستوى القضائي.
وزاد الأمر تعقيداً ضغط التيار الوطني الحر على ميقاتي لاستئناف جلسات الحكومة “بمن حَضر”، في تناقض صريح مع توجّهات حركة أمل وحزب الله، ومن خلال إصرار باسيل على نسف “الاتفاق الثلاثي” الذي تمّ برعاية بطريركية، والذي تجدّد في اللقاء الثلاثي في بعبدا في عيد الاستقلال.
وهنا يعلّق مصدر وزاري قريب من الثنائي الشيعي: “ولا لحظة فَصَلنا بين موقف رئيس الجمهورية وباسيل. نحن نشهد توزيع أدوار بينهما فقط. لكنّ النتيجة واحدة، وهي تعطيل عمل الحكومة حتى إشعار آخر”.
وفي اليومين الماضيين تقاطعت مواقف وزراء في الحكومة عند الضغط على بعبدا من أجل التحرّك، فبرزت مناشدة الوزير بسام مرتضى، المحسوب على الرئيس نبيه بري، رئيس الجمهورية “تصويب المسار بإخراج الطاغوت من دار العدالة وإيجاد وسائل تنفيذية لاحترام الدستور والقوانين”، وإشارة الوزير مصطفى بيرم، المحسوب على حزب الله، إلى أنّه “لا يمكن لقاضٍ أن يتحوّل إلى سلطات مطلقة يأتي برئيس حكومة أو نائب أو وزير (إلى التحقيق)، ويصبح أكبر وأقوى من الرئيس اللبناني”، متحدّثاً عن “تحريض كبير، وهذه نقطة خلافية كبيرة جدّاً”.
ويرى مواكبون للأزمة الحكومية أنّ عون “باستطاعته وضع حدٍّ لهذا الوضع الشاذّ. وإذا كان مخوّلاً دستورياً السهر على حسن سير القضاء، فمن واجباته الدستورية أن يتصدّى لـ”حالة قضائية” نافرة لا تشتغل بأجندة قضائية صرف، بل وفق أجندة خارجية مشبوهة”.
وفيما باتت أصابع الاتّهام تُوجّه بوضوح إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود والمحقّق العدلي القاضي طارق البيطار بكونهما “حالة قضائية” متفلّتة من المعايير القضائية، يشير هؤلاء إلى أنّ “عون قادر، من ضمن سلطاته الدستورية، على وضع حدّ لها. ومثلما يطالب فريقه السياسي بتعيين بديلٍ عن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، يستطيع السير بخيار تعيين بديل عن القاضي عبود”.
ويتساءل هؤلاء: “مَن كان صاحب القرار والصلاحيّة بعزل رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق جان فهد الذي شغل موقعه لسبع سنوات، وتعيين القاضي عبود مكانه. أليس رئيس الجمهورية؟!”.
مع ذلك، ثمّة فريق وازن داخل العدليّة وخارجها يرى أنّ معركة الإطاحة بعبود والبيطار “هي معركة سياسية وليست قضائية، وعناصر نجاحها أو أسبابها المُقنِعة غير متوافرة، وستشكّل نكسة إضافية كبيرة للعهد وللمروّجين والداعمين لها”.
ويعتبر هؤلاء أنّ “المواقف القضائية والسياسية، التي واكبت تعيين عبود في موقعه في أيلول من عام 2019، تدلّل على أنّه ليس من القضاة الذين يعملون بأجندات داخلية ولا خارجية، ولا يستغلّ موقعه الحالي لغايات رئاسية”.
إقرأ أيضاً: دولة الرئيس: ماذا قال لك بن سلمان؟
وفي المشهد العامّ تقول أوساط الثنائي الشيعي لـ”أساس”: “بعدما سلّم الأميركي بصعوبة إحداث التغيير المطلوب من خلال الجيش، هو يحاول القيام بذلك عبر القضاء وبعض الأدوات التي يستخدمها لتنفيذ مخطّطه”، مشيرة إلى أنّ “الثنائي الشيعي متوجّس من وجود “حالة قضائية” مستقوية بالذراع الأميركية والأوروبية، لها مصالحها السلطوية والرئاسية في الداخل، وتنفّذ في الوقت عينه إملاءات خارجية. وميشال عون وجبران باسيل يعلمان تماماً هذا الواقع ويقرّان به، لكن ثمّة “فوبيا” مسيحية وانتخابية تتحكّم بأدائهما وتمنعهما من الذهاب بعيداً في التصدّي لهذا المشروع”. وهو الأمر الذي أشار إليه صراحة أمس النائب علي حسن خليل حيث اعتبر أنّ الخروج من الأزمة يتطلب “جرأة في المعالجة وتحمّلاً للمسؤولية ورفضاً للخنوع ومنطق الضغط الذي يمارس على الأجهزة القضائية والتنفيذية”.