ما إن حُسِمت معركة انتخابات الرئيس الجديد لمنظّمة الشرطة الجنائية الدولية “الإنتربول” حتى تراجعت الحملات السياسية والإعلامية ضدّ اختيار المرشّح الإماراتي اللواء أحمد ناصر الريسي رئيساً جديداً لها، وهدأت الأمور. وبذلك أصبح الريسي أوّل مسلم عربي خليجي إماراتي يتولّى هذا المنصب الدولي الرفيع.
السؤال بكلّ شفافية: أين وكيف توحّدت المواقف والصفوف ضدّ الإمارات ومرشّحها؟ وهل الهدف هو محاسبة اللواء الريسي وتصفية الحسابات معه أم عرقلة وصول شخصيّة أمنيّة إماراتية لمنصب الرئاسة في منظمة دولية بهذا الحجم؟
تعرف أبو ظبي جيّداً أين بدأت الحملات على المرشّح الإماراتي ومَن قادها وحرَّكها قبل أشهر. وتعرف أنّ إيصال مرشّحها إلى مثل هذا المنصب يثير غضب البعض، لكنّه يحمل معه عسر هضم لبعض أصحاب المعدات الحسّاسة أيضاً
الإجابة بكلّ شفافية أيضاً: التصعيد الذي تابعناه منذ أشهر في العديد من المؤسسات الإعلامية والمحافل السياسية من خلال توحّد أصوات عربية وغربية في مواجهة المرشّح الإماراتي في إطار حملات منظّمة بعناصرها ورسائلها وأهدافها، ربّما كان بين أسبابه العلنيّة محاولة قطع الطريق على اللواء الريسي، لكنّ الهدف الأبعد للبعض كان الحؤول دون رئاسة مواطن إماراتي لجلسات وأعمال الإنتربول في السنوات الأربع المقبلة.
كان الهدف أيضاً إدراج اسم تركيا على لائحة “المتعاونين” لتسهيل انتخاب الريسي ما دامت الانتخابات ستجري خلال الاجتماع السنوي لمنظمة الإنتربول، الذي عُقِد في مدينة إسطنبول هذه المرّة، وسبق زيارة وليّ عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد لأنقرة، وما دامت العلاقات التركية الإماراتية تتقدّم بشكل إيجابي نحو مسار التطبيع وإعادتها إلى سابق عهدها.
كان بين الأهداف محاولة اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد: لعب ورقة الريسي ضدّ التقارب والانفتاح التركي الإماراتي، والدليل أنّ غالبيّة التحليلات المنتقِدة والمعارِضة لهذا التقارب داخل تركيا وخارجها ربطت خلال “عملية الجلد” بين مسألة الانتخاب واجتماع الإنتربول في إسطنبول وبين زيارة وليّ عهد أبو ظبي لأنقرة ومحاولة عرقلة التقارب التركي الإماراتي ودفنه في المهد.
فمرّة الإمارات هي المموّل الثالث الأهمّ في الإنتربول، والقادرة على التحكّم بقراراته، ومرّة أخرى يجري حديثٌ عن شراء المواقف السياسية والأصوات لإيصال المرشّح الإماراتي، ومرّة ثالثة يلجأ البعض إلى تقارير أشخاص ومؤسّسات توجد غالبيّتها في عواصم غربية، توجِّه التهم، وتعلن قرار الإدانة من دون محاكمة أو حتى من دون أيّ حكم قضائي.
من الممكن فهم تحرّك بعض السياسيين الغربيين لعرقلة فوز اللواء الريسي، ومطالبة حكوماتهم باليقظة والحذر إزاء احتمال وصول مواطن إماراتي إلى رئاسة الإنتربول. ومن الممكن تجاهل أنّ “ترشيحاً تشوبه شكاوى يمكن أن يشكّل خطراً حقيقياً، وقد ينزع الشرعية عن المؤسسة التي تعمل انطلاقاً من مدينة ليون الفرنسية”. لكنّ الحقائق تقول أيضاً إنّ البعض في الغرب يريد احتكار كلّ شيء: المواقع والمناصب ومراكز القرار والتاريخ والجغرافيا. ولذلك أغضبه ترشّح أحد المواطنين العرب لمنصب قيادة منظمة دولية بهذا الحجم وهذه الأهمّية.
المؤسف أكثر كان دخول بعض المؤسسات العربية الإعلامية والاجتماعية الناشطة على شكل منظّمات مجتمع مدني في المواجهة. ولذلك جاءت النتيجة موجعة لهؤلاء الأصدقاء قبل الحديث عن خيبة أمل الخصوم والمنافسين والمحرّضين.
من هو الرئيس الريسي؟
كانت المنافسة على رئاسة المنظّمة شبه معلنة بين الريسي والتشيكيّة ساركا هافرانكوفا، وتواصلت من خلال اقتراع حسم فوز المرشّح الإماراتي الذي حصل على أغلبيّة ثلثيْ أصوات الدول الأعضاء البالغ عددها 194 دولة. وفي اليوم الثالث لانطلاق أعمال الدورة الـ89 للجمعيّة العمومية للمنظمة، اُستُكمل انتخاب نواب الرئيس وبقيّة أعضاء اللجنة التنفيذية بحسب التوزيع الجغرافي للدول والمقاعد. جرت الانتخابات وفق موادّ النظام الداخلي للمنظمة، وكانت المنافسة علنيّةً بين مرشّحيْن، وقد حُسِمت لمصلحة أحدهما بدعم من أصوات الدول الأعضاء التي تمثِّل القارّات الخمس في العالم، وهذا أهمّ ما سيسجّله التاريخ والأرشيف عن العمليّة الانتخابية.
للتذكير فقط. يحمل الريسي، الرئيس الجديد للمنظمة، تجربة مهنية وأكاديمية عالية، وخبرة طويلة في مجال العمل الشرطي. هو مفتّش عامّ في وزارة الداخلية الإماراتية منذ عام 2015، ومكلّف بإدارة القوات الأمنيّة في الإمارات، وعمل عضواً في اللجنة التنفيذية للإنتربول ممثّلاً لقارة آسيا خلال السنوات الثلاث الماضية. وهو حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم الشرطية والأمن وسلامة المجتمع من جامعة لندن متروبوليتان البريطانية، ويملك خبرة تقارب أربعة عقود في مجال إنفاذ القانون، ويُعتبر خبيراً في المجالين الأمنيّ والشرطي والتحوّل الرقمي. وكان رئيساً لمجلس أمناء الجامعة الأميركية في الإمارات. الحقيقة هي أنّ أحدهم أراد تجاهل كلّ هذه المؤهّلات، وحاول قطع الطريق على رئاسته لمنظمة الإنتربول ففشل.
من اعترض أوّلاً؟
ينبّهنا البعض إلى التحقيق، الذي نشرته صحيفة “التلغراف” البريطانية في مطلع تشرين الأول من العام المنصرم، عن المرشّحين إلى رئاسة المنظمة الدولية الإنتربول. وكان على رأسهم المرشّح الإماراتي اللواء الريسي. ورد في نهاية التحقيق تحذيرٌ من “فقدان المنظمة صدقيّتها إذا ما تمّ انتخابه رئيساً”.
ثمّ كانت رسالةٌ للنائب في البرلمان الفرنسي، هوبير جوليان لافيريير، طلب فيها مع 35 برلمانيّاً آخر إلى حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون الاعتراض على ترشّح الريسي لرئاسة هذه المنظمة. لكنّ الأمين العامّ للإنتربول يورغن شتوك، وهو كبير المسؤولين المتفرّغين في المنظمة، ويشرف على تسيير الأعمال اليومية للهيئة، قال بعد انتخاب الرئيس الجديد: “عملت مع الريسي حين كان في منصبه السابق يعمل مندوباً في اللجنة التنفيذية على مدى السنوات الثلاث الماضية، وإنّني أتطلّع إلى العمل معه عن كثب لضمان استمرار منظمة الإنتربول في أداء وظيفتها ودعم التعاون الشرطي الدولي”. وتابع شتوك: “هل نحن بحاجة إلى الإمارات العربية المتحدة؟ نعم بالتأكيد. الكثير من الدول لديها تعاون ثنائي مع هذا البلد. وتابع: “هل يجب أن نوقف هذا؟ لا”.
لا حاجة إلى الدخول في التفاصيل أكثر من ذلك. تعرف أبو ظبي جيّداً أين بدأت الحملات على المرشّح الإماراتي ومَن قادها وحرَّكها قبل أشهر. وتعرف أنّ إيصال مرشّحها إلى مثل هذا المنصب يثير غضب البعض، لكنّه يحمل معه عسر هضم لبعض أصحاب المعدات الحسّاسة أيضاً.
إقرأ أيضاً: “فايننشال تايمز”: تحوّل كبير.. كيف غيّرت الإمارات سياساتها؟
في تقرير نشرته صحيفة “الغارديان” يوم التاسع من نيسان الماضي، وجَّه المحقّق البريطاني السابق سير ديفيد-كالفيرت سميث انتقادات مباشرة لـ”الإنتربول”، لافتاً إلى أنّ قبول ترشّح اللواء أحمد ناصر الريسي هو بمنزلة “مكافأة لأبوظبي” التي تُعتبر من أبرز مموّلي المنظمة، لكنّ رئيس البرلمان العربي عادل بن عبد الرحمن العسومي يقول إنّ فوز مرشّح الإمارات سيؤكّد ريادتها وثقة المجتمع الدولي بها.
وفي مقابل تقرير صحيفة “الغارديان” الذي رأى أنّ انتخاب اللواء رئيساً للشرطة الدولية يمثّل “انتصاراً للثروة والتأثير” على المنظمات الدولية، كان بيان مجلس وزراء الداخلية العرب داعماً لفوز الريسي وللجهود التي بذلتها العواصم العربية لدعم المرشّحين العرب الذين تمّ انتخابهم في الهيئة التنفيذية لمنظمة الإنتربول، وقد جاء فيه أنّ “فوزهم بهذه المناصب الرفيعة والمهمّة سيكون رافداً من روافد الحضور العربي في هذه المنظومة العالمية.. خاصّة أنّ المرشّحين يتمتّعون بكفاءة عالية وخبرات ثريّة تمكّنهم من تمثيل منطقتنا العربية أحسن تمثيل”.